الشغف وتعدّدية النص


*يوسف ضمرة

كتب ماركيز رواية وحيدة تحمل عنوان «مائة عام من العزلة»، لكن العدد الحقيقي للروايات التي تحمل هذا الاسم، يوازي عدد قرائها. قال بورخيس يوماً ما شيئاً مشابهاً عن أسفار التوراة. ثم جاء جاك دريدا بمقولة الإرجاء والاختلاف، لتصبح كل القراءات صحيحة لدى البعض، أو كلها خاطئة لدى البعض الآخر.

للتوضيح، فإن النص الواحد يختلف من قارئ إلى آخر، على الرغم من أنه لا شيء يتغير في الكلمات. هنا سندخل إلى نقطة في علم الجمال.

قبل أيام اختلفنا في حوار مطول حول أهمية بعض الروايات وجمالياتها. وفي نهاية المطاف سيكون على كل منا أن يسأل نفسه: لماذا أحببت تلك الرواية ولم يحبها الآخرون؟

لا ينسى علماء الجمال كرة القدم. ومن خلال هذا الباب أود تقريب المسألة أكثر، فاختيار أجمل عشرة أهداف في كأس العالم مثلاً، يفاجئ الكثيرين؛ يفرح بعضهم ويحبط البعض الآخر. ولكن، ولكي تكتمل الصورة أكثر، سيكون عليك أن ترى الأهداف أولاً. يخيل إليك مع أكثر من هدف، أنه هدف كلاسيكي، أو عادي. تعيد الرؤية مرة أخرى وتدقق أكثر، فتكتشف أشياء غابت عنك في المشاهدة الأولى. أحياناً يساعدك الشرح المرافق للهدف «ما يوازي النقد في الأدب». أنت في المشاهدة الأولى ترى الكرة وقد وصلت إلى لاعب انفرد بحارس المرمى، وغمز الكرة ببساطة، وسجل الهدف. هنا تقول لنفسك: حسناً، لماذا تم اختيار هذا الهدف؟ حين تعيد المشاهدة، تكتشف أن اللمسة الأخيرة التي جاء بها الهدف، مجرد لمسة عادية. ولكن، كيف وصلت الكرة إلى هذا اللاعب. تكتشف أن هنالك أكثر من 12 تمريرة للكرة بين اللاعبين قد حدثت، وأن أكثر من لاعب بدّل مكانه أثناء هذه الهجمة، وأن بعض اللاعبين قاموا بدور غريب، كإشغال مدافع أو أكثر بمراقبتهم، إلى أن وصلت الكرة إلى اللاعب الذي جاء من الخلف، ولم يكن في البداية داخل الكادر كله، ليقوم هو بتسجيل الهدف.

قد لا يكون المثال كافياً، فهنالك أهداف أخرى لا تأتي كذلك، بل في أشكال مختلفة. ولكنك حين تدقق النظر، سوف تكتشف أن هنالك شيئاً ما، كان مميزاً في تسجيل الهدف، وهو ما قد يكون جماعياً أو فردياً. ولكن الفريق عادة «مفرد» كالكاتب تماماً. بمعنى أن اللاعب دائماً يتلقى معونة زملائه لمساعدته.

في الكتابة، قد تكتشف في القراءة الأولى أن هذا الكتاب أو ذاك، مجرد كلام عادي، أو ثرثرة لا تقدم لك متعة جمالية ولا أي شكل من أشكال المعرفة الإنسانية. تعيد القراءة، فتكتشف أن الكتاب أحالك إلى منطقة كانت معتمة في حياتك؛ حب الحياة! هل فكرت في ذلك من قبل؟ ربما. كيف؟ لا تذكر، أو ربما تذكر نتفاً سطحية أو فكرة ضبابية عن الموضوع. حسناً، هل قرأت زوربا؟ هل رأيت ذاك الشغف المتوهج؟ يا إلهي! أتذكر جملة قالها أحد الصعاليك لعروة بن الورد في مسلسل درامي «أنا مستعد لذبح ناقة أمام خيمة امرأة جميلة».

لقد وصلنا إلى ما نفكر فيه تماماً «الشغف»! وعندما يجعلك نص أدبي تفكر في مفهوم أو قيمة إنسانية بشغف، فهو بالتأكيد لم يفعل ذلك عبر ثرثرة عابرة. إنه ببساطة يزيح الستارة عن منحوتة مربِكة، ويكون عليك أنت أن تلف حولها وتتأملها بكل تفاصيلها. أهذا شيء مما يفعله الأدب؟ ربما.
____
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *