من أدب الرحلات/ ستوكهولم بعد انتظار طويل


*محمود شقير



خاص ( ثقافات )
الرحلة الثانية والأخيرة
1
أعود إليها مرة أخرى وأنا راغب في معرفتها على نحو أفضل. وصلنا إليها مساء الأحد (30/11/1997). ثمة ثلوج خفيفة تتراكم هنا وهناك في أرجاء المدينة وعلى أطرافها. لم يكن السفر إلى أوروبا يروق لي في فصل الشتاء، خشية من البرد الشديد، لكنني هذه المرة كنت معنياً بهذا السفر، للخروج من حالة التأزم التي تلبستني في الوطن خلال الأسابيع الأخيرة، بسبب كثرة المشاغل ووفرة الهموم. كنت على رأس وفد من ستة أشخاص من المعنيين بالعمل الثقافي في فلسطين. (ثلاث نساء وثلاثة رجال) وجدنا سائق سيارة في انتظارنا، أخذنا إلى فندق “كريستال بلازا” في العاصمة. الفندق متوسط الحال، في مدخله ردهة صغيرة لا تتسع إلا لعدد محدود من الناس. 
الغرفة التي أقيم فيها صغيرة، فيها سرير منفرد، جهاز تلفاز، وثلاجة تحتوي على عدد من علب البيبسي كولا والمياه المعدنية. الحمام صغير جداً يفتقر إلى محارم ورقية! في الغرفة لوحة يظهر فيها فوج من رجال البحرية الأمريكية (هنا أيضاً، في غرفة نوم في الفندق!)، تقف في استقبالهم مجموعة من النساء، وثمة جسر فوق نهر، سفينة صغيرة راسية على ضفة النهر، وعدد من البنايات منتشرة على جانبيه.
بعد وصولنا إلى الفندق بقليل، ذهبنا إلى أحد مطاعم مكدونالدز، (انسجاماً مع لوحة رجال البحرية) أكلنا ساندويشات همبرغر مع زجاجات بيبسي كولا (كم أكره هذا النوع من الطعام!) ثم عدنا إلى الفندق مشياً على الأقدام. كنت أرتدي ملابس شتوية قادرة على حمايتي من برودة الطقس. 
في اليوم التالي، أشرقت الشمس في حوالي الثامنة والنصف صباحاً، وغابت في الثالثة بعد الظهر أو قبل ذلك بقليل. الطقس بارد جداً، والسماء مجللة بالغيوم، ثمة أمطار خفيفة تهطل بين الحين والآخر. وفضاء المدينة رمادي باعث على الحزن. كانت سيارتا تاكسي في انتظارنا أمام الفندق. ذهبنا إلى مقر وزارة الثقافة حيث أجرينا لقاء مع اثنتين من الموظفات، تحدثنا في تفاصيل التعاون المشترك. جرى الاجتماع بسلاسة وانسجام. ذهبنا بعد ذلك إلى البلدة القديمة، من ستوكهولم، التي أنشئت في القرن الثالث عشر الميلادي. أحببت هذه البلدة القديمة بما تحمله من طابع خاص ومن وداعة تفتقر إليها أحياء المدينة الحديثة. أسواقها ضيقة وفيها متاجر تبيع كل أصناف السلع من دون بهرجة أو ادعاء زائد. تناولنا طعام الغداء في مطعم صغير. 
أخذتنا المرافقة السويدية، إلى مؤسسة ثقافية مسؤولة عن تنظيم النشاط الثقافي في البلاد. اجتمعنا هناك مع امرأتين لديهما خبرة في الموضوع، ثم عدنا في سيارتين إلى الفندق. أشعر بأن أعصابي تميل إلى استرخاء طالما انتظرته. في المساء، دعانا المضيفون إلى سهرة في مكان تغني فيه مغنية تركية ومعها عازفون شرقيون. غنت المغنية بضع أغان تركية لم أستطع الحكم على مستواها الفني، غير أنها لم تكن منفرة. 
غادرنا المكان. مشينا مسافة طويلة. ستوكهولم مدينة جميلة منتشرة على أربع عشرة جزيرة. أشجارها العارية على الأرصفة تزدان بأضواء كثيرة ملونة، انتظاراً لأعياد الميلاد. عدت إلى غرفتي، قرأت في رواية “فهد في باحة المنزل” للإسرائيلي عاموس عوز، الرواية مترجمة إلى اللغة الانجليزية، يتحدث فيها كاتبها عن كفاح المنظمات الصهيونية المسلحة ضد الانتداب البريطاني من أجل الاستقلال! لم تعجبني هذه المبالغة في تصوير التناقض العابر مع سلطات الانتداب (التي احتضنت الحركة الصهيونية) كما لو أنه نضال للتحرر الوطني ضد غزاة أجانب! 
2
يوم ثالث في ستوكهولم. الساعة الآن الثالثة وخمس وأربعون دقيقة مساء. قبل ساعتين أظلم الفضاء، وحلّ الليل. سقطت ثلوج خفيفة. الطقس بارد وأنا لا أحب هذا الطقس. (تكثر حوادث الانتحار بين أهل البلاد في مثل هذا الطقس)
عقدنا اليوم اجتماعين: أحدهما في مقر المؤسسة السويدية للتبادل الثقافي، والثاني في مؤسسة للعلاقات الدولية. كانا اجتماعين خفيفين لم يستغرقا سوى بعض الوقت. تناولنا طعام الغداء بدعوة من المؤسسة الأولى. تحدثنا أثناء الغداء أحاديث عابرة. عدنا إلى الفندق. وضعنا في غرفنا ما قدمه لنا المضيفون من كتب ونشرات، ثم خرجنا من جديد إلى بقالة مجاورة للفندق. صاحب البقالة إيراني لا يجيد سوى بعض كلمات انجليزية. اشترينا منه خضاراً وفواكه وحلوى ومياهاً معدنية. 
بعد ساعة، بدأت الثلوج تتساقط فوق المدينة، تراكم الثلج بكثافة في الشوارع وعلى الأرصفة.لم يمنعنا ذلك من مغادرة الفندق. ذهبنا إلى عدد من دور السينما للعثور على فيلم جيد. أخيراً، قررت أن أحضر فيلماً أمريكياً اسمه: “امرأة فاتنة” لم أعرف من الممثلين سوى جون ترافولتا. إنه فيلم لا بأس به، تميز بالتصوير البانورامي وبالحركة السريعة. ذكرني إلى حد ما بروايات الأمريكي أرسكين كالدويل، التي يقوم أبطالها بارتكاب أعمال فادحة، لكنها تبدو كاريكاتيرية مضحكة. الفيلم يتحدث عن زوجة بائسة، أقدم زوجها المدمن على الكحول على قتل أحد الأشخاص، (لم يكن يقصد قتله) ثم سجن عشرة أعوام، فتزوجت زوجته من رجل آخر. حينما خرج الزوج الأول من السجن، كان لا يزال محتفظاً بحبه لها، وبدا أنها هي الأخرى ما زالت تحبه، عادا إلى الارتباط معاً، رغم معارضة الزوج الثاني في بداية الأمر، ثم موافقته على ذلك في النهاية.
في اليوم التالي، بدا الطقس أفضل قليلاً. ذهبنا إلى مقر (السويد اليوم) وهي صحيفة يومية مشهورة، توزع 220 ألف نسخة يومياً. التقينا هناك صحافية مكثت في جامعة بير زيت مدة عام. سلمت علينا بمودة لأننا ذكرناها بالبلاد التي عاشت فيها زمناً، وأحبتها رغم ما فيها من حياة غير طبيعية بسبب الاحتلال. تحدثنا قليلاً في الشأن السياسي، ثم قمنا بجولة في مقر الصحيفة حيث تنتشر مكاتب المحررين. غادرنا المقر إلى وزارة الخارجية، قابلنا هناك إليزابيث التي عملت سنتين في القدس. (رافقتنا في نيسان الماضي) بدت هي الأخرى مسرورة لمقابلتنا. حدثناها عن بعض همومنا العامة التي تعرفها إلى حد كبير، ثم غادرنا المكان إلى البلدة القديمة. اهتدينا إلى مطعم القدس الذي يملكه مواطن فلسطيني من غزة. (كيف يتبعثر الفلسطينيون في شتى أرجاء العالم!) وضعتُ أوراقي عنده (على اعتبار أنه ابن بلد) وذهبت للتمشي في البلدة القديمة مدة ساعة أو أكثر قليلاً: ثمة أسواق شبيهة ببعض أسواق القدس، تنتشر على جوانبها محلات للملابس، التحف، الكريستال، واللوحات الفنية، وثمة مقاهٍ ومطاعم. خرجت من نطاق البلدة القديمة ومشيت في شارع بيبليوتكس المخصص للمشاة. كان ثمة خلق كثيرون يسيرون في الشارع، رغم تساقط الثلج على نحو خفيف. 
عدت إلى المطعم في الثانية عشرة والنصف. وجدت هناك سميح وسيرين وروز (روز شوملي شاعرة مقيمة في رام الله). استمر نصير ومريم وإبراهيم يتمشون في السوق. (ابراهيم المزين فنان تشكيلي مقيم في غزة) تناولنا طعام الغداء، ثم ذهبنا روز وأنا إلى الأكاديمية السويدية التي لا تبعد كثيراً من البلدة القديمة. (حوالي مائتي متر أو أكثر قليلاً) التقينا هناك سكرتير الأكاديمية ستور أيلين، وهو بروفسور في الفيلولوجيا. قدم لنا فكرة عن عمل الأكاديمية وكيفية اختيار الفائزين. (الأكاديمية متخصصة في منح جائزة نوبل للآداب) تجولنا في أرجاء المبنى حيث القاعة التي يقدم الفائز بالجائزة، محاضرته فيها بتاريخ السابع من كانون الأول من كل عام. شاهدنا الغرفة التي تجتمع فيها لجنة الجائزة مرة في الأسبوع. تجولنا في المكتبة، ثم شكرنا البروفسور أيلين على ما قدمه لنا من توضيحات. 
ركبنا التاكسي إلى دار المنى للنشر. هناك، قابلنا صاحبة الدار، منى زريقات هيننغ، وهي أردنية متزوجة من رجل سويدي. تحدثنا عن أدب الأطفال وعن ترجمات دار المنى. (كنت تعرفت إلى منى قبل شهرين في عمان، أثناء مشاركتي في ندوة أدب الأطفال، التي أقامتها وزارة الثقافة الأردنية، أما روز التي تكتب للأطفال، فهي تعرفها من وقت سابق وتربطها بها علاقة متينة) 
غادرنا دار المنى إلى الفندق. استرحت ساعتين في غرفتي، ثم التقيت بأعضاء الوفد من جديد، حيث نقلتنا السيارات إلى بيت منى زريقات لتناول طعام العشاء. بيت منى جميل، تملكه هي وزوجها ويقع في ضواحي ستوكهولم. شكرتها على اهتمامها بنا، وعلى الدور الذي تؤديه في تعريف الطفل العربي – عبر الترجمة- بنماذج ممتازة من الأدب السويدي، (كتابات أستريد لندغرين تحديداً) عدنا إلى الفندق. الثلج توقف عن الهطول منذ ساعات المساء. 
3
أنا في مقر المجلة الثقافية الفصلية التي يحررها الروائي جان هنريك سوان. تبادلنا الحديث حول الشأن الثقافي. أخبرني أنه يطبع 3500 نسخة من المجلة، وأن أغلب أعدادها تذهب للمشتركين. (2500 مشترك) كانت معه في المكتب فتاة كورية، قام رجل سويدي وزوجته بتبنيها وهي طفلة غير معروفة الوالدين، نمت وكبرت في السويد، تزوجت من فنان سويدي، نشرت كتاباً عن تجربتها في الحياة: الضياع والتبني والتحول إلى مواطنة سويدية. بدت هادئة لا تشكو من أي شيء (إنْ صحّ هذا الانطباع) 
قضيت وقتاً طويلاً في التمشي في شوارع ستوكهولم. كان الطقس بارداً. جلست في مقهى فارغ من الزبائن تقريباً، ربما كان زبائنه لا يأتونه إلا بعد المساء. شربت شاياً، ثم عدت إلى الفندق وأنا حزين بعض الشيء. 
في السابعة مساء، ذهبت أنا وأعضاء الوفد إلى مسرح تجريبي، شاهدنا مسرحية يقوم بالتمثيل فيها أربعة ممثلين، (رجلان وامرأتان) المسرحية تعتمد على حركات أجساد الممثلين، حيث لا يوجد حوار، وثمة موسيقى تبدو كما لو أنها تأوهات صادرة من الأعماق، والممثلون يؤدون حركات راقصة إيمائية في حوض واسع مربع الشكل، يهطل عليه مطر اصطناعي من سقف المسرح. يجلس الجمهور حول الحوض. قُدمت للذين جلسوا قريباً من الحوض، مشمعات من النايلون كي تقيهم من رذاذ الماء المتطاير جراء حركات الممثلين. ثمة سلّمان صاعدان إلى حيز خشبي مثبت على حائط المسرح، يصعد أحد الممثلين هذا السلم للجلوس في الحيز الخشبي، يجلس وحيداً كما لو أنه شخص منبوذ! ثمة إضاءة تتحرك نحو الخفوت أو الوضوح بحسب تدرج المشهد الدرامي في المسرحية التي تبدو كما لو أنها محاولة مستميتة للقبض على انسجام ما غير متحقق. (تعجبني هذه الجرأة في التجريب)
ركبنا الحافلة التي توصلنا إلى الفندق. ما إن دخلت غرفتي حتى سمعت دقات على الباب. فتحتُ الباب، وإذا بي أرى موسى صرداوي بجسمه النحيل. أعادني في لحظة مباغتة إلى تلك الأيام البسيطة في رام الله قبل سنوات طويلة. (كنت هاتفته قبل خروجي إلى المسرح بدقائق. موسى شاعر فلسطيني مقيم في السويد منذ سنوات، وهو أحد كتاب مجلة الأفق الجديد المقدسية إبان فترة الستينيات، إنه قروي بالفطرة، معذب باستمرار) 
ذهبت أنا وموسى إلى مطعم يملكه أحد الأتراك. حدثني عن إحساسه بالغربة في السويد، حيث لا أصدقاء ولا علاقات اجتماعية. خرجنا من المطعم وذهبنا إلى فندق مجاور. احتسينا الشاي في صالة الفندق، تبادلنا الأحاديث حول الأدب. تذكرنا معاً أخاه العامل الثوري الذي كنا نزوره في قرية صردا بالقرب من رام الله لكي نحاوره في آفاق الثورة التي ينبغي أن توصلنا إلى الوحدة العربية الشاملة في أقرب وقت ممكن (لم تتحقق الثورة، فاختار، تحت وطأة هزيمة حزيران، السعي نحو الثروة. بعد سنوات أصبح ثرياً، وكان له ما أراد) الساعة تقترب من الثانية عشرة ليلاً. اتجه موسى إلى محطة المترو للعودة إلى بيته البعيد. مشيت نحو الفندق بخطوات بطيئة وأنا شارد الذهن حيناً، واقع تحت سحر المدينة التي تتأهب للنوم من دون استعجال، حيناً آخر.
في يوم الرحلة قبل الأخير، أجريت عدداً من اللقاءات. ابتدأت بلقاء في مركز أدب الأطفال. هناك التقينا، روز شوملي وأنا، مديرة المركز. كانت معها د. أولاّ لانكفيست التي جاءت إلى فلسطين وشاركت في ورشة أدب الأطفال التي أقامتها وزارة الثقافة الفلسطينية في مركز خليل السكاكيني في شهر شباط 1997. أولاّ مثقفة لها حضور فعّال. استمعنا إلى شرح عن نشاطات المركز وما فيه من كتب للأطفال. لفت انتباهي كتاب يروي عبر الرسوم، من دون كلام، قصة للأطفال، عن رجل يترك كلبه جائعاً خارج البيت، ثم يندم على تصرفه. يتصالح مع كلبه ثم يتناولان الطعام معاً.
ذهبنا بعد ذلك إلى مكتبة بلدية ستوكهولم. (فيها ستمائة ألف كتاب) استقبلنا مسؤول في المكتبة اسمه لاري، وهو يهودي، قدّم لنا شرحاً عن المكتبة، تساعده إحدى الموظفات. طفنا أقسام المكتبة المختلفة. كان هناك طلاب وطالبات من الجامعة يقرأون الكتب في قاعات المطالعة (يؤم المكتبة 2000 شخص كل يوم) رأينا أطفالاً منشغلين بالقراءة وببعض الأنشطة الفنية في الأقسام المخصصة للأطفال. ألقت الموظفة درساً لعدد من الفتيات والفتيان في قاعة عرض صغيرة. ناقشتهم في الكتب التي قرأوها، ثم حدثتهم عن بعض الكتب التي ترى أنها جديرة بالقراءة. (قبل يومين، جاء الرئيس الروسي يلتسين إلى ستوكهولم في زيارة رسمية، أبدى رغبة في مقابلة استريد لندغرين، أهم كاتبة لأدب الأطفال في العالم. تناول طعام الغداء مع الكاتبة العجوز، لأنه ما زال يذكر باستمتاع كتبها التي قرأها في طفولته)
غادرنا المكتبة وذهب لاري معنا، اتجهنا إلى مطعم قريب، أصر لاري على دفع ثمن الغداء. تناولنا طعاماً سويدياً: حبة بطاطا كبيرة في داخلها سمك من نوع مشروم وسلطات. لاري يتبنى أفكاراً عقلانية وينشط من أجل إحلال السلام في منطقتنا. لاحظنا أنه محب لعمله، راغب في التحدث معنا وفي تقديم ما يلزمنا من خدمات. رافقنا إلى مؤسسة للنشر، تشرف عليها امرأة تقوم بتلقي مساعدات من الحكومة لإعادة إصدار كتب في طبعات شعبية، ثم تبيع الكتاب الذي ثمنه 100 كورون ب 28 كوروناً، وتطبع منه 25 ألف نسخة. تحدثنا معها بعض الوقت حول نشر الكتب. 
استرحنا في اليوم السابع، لم تكن لدينا مقابلات أو أنشطة مشتركة مع المؤسسات السويدية. تفرق أعضاء الوفد كلّ في اتجاه. انتظرت موسى صرداوي حتى العاشرة والنصف في الفندق، فلما تأخر، تركت له رسالة واتجهت إلى المتحف الوطني. ابتدأت التفرج على لوحات حديثة لفنانين سويديين مرسومة بطريقة الليتوغراف. هي في مجملها جيدة ولافتة للانتباه. جاء الصرداوي، فواصلنا معاً التفرج على بقية معروضات المتحف. إنه ليس متحفاً مهماً إذا ما قورن بمتحف اللوفر في باريس أو بالمتحف الوطني البريطاني في لندن. مع ذلك، شاهدنا في أحد الأجنحة مقتنيات للبيوت الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر: بوفيهات، مرايا، طاولات سفرة، أوانيَ زجاجية، أوانيَ من السيراميك. وفي أجنحة الفن التشكيلي، كانت هنالك لوحات فنية لسيزان ولعدد من الرسامين السويديين الذين تأثروا به. شاهدنا لوحات لمانيه، ديلاكروا، غوغان وآخرين. ولوحات لفنانين روس عن المسيح، من بينها لوحة: المسيح يدخل القدس. حيث يبدو راكباً بغلة، والناس من حوله يستقبلونه. شاهدنا لوحات لفنان سويدي اسمه إيفان أغويلي 1869-1917، تأثر بسيزان، أسلم وعاش في مصر، وله لوحات متأثرة بالبيئة المصرية.
شاهدنا لوحة للفنان امبراسيوس بنسون اسمها: عرس في قانا. ذكرتني بلوحة تحمل الاسم نفسه في متحف اللوفر بباريس. لكن لوحة اللوفر أكبر حجماً وأعظم إبداعاً. (العرس الذي حول المسيح فيه الماء إلى خمر) شاهدنا رسوماً عديدة أقرب إلى الكاريكاتير، لرسامين من القرن السابع عشر تجسد نزعة جنسية مكشوفة. ثمة في المعرض تماثيل لرودان ولغيره من النحاتين. اشتريت من المعرض كتاباً عن غوغان وفيه رسوم عديدة له. (سأعود إلى هذا الكتاب، وأنا أقرأ رواية “الفردوس على الناصية الأخرى” للكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا، المكرسة لحياة غوغان وجدته فلورا تريستان! أتأمل من جديد رسوم غوغان التي يتحدث عنها يوسا، وينطلق منها لسرد وقائع حياة الرسام في جزيرة تاهيتي التي ذهب إليها، ليعيش بين أهلها ذوي الحضارة البدائية، بعيداً من الحضارة الأوروبية التي تقتل كل جديد في عالم الإبداع على حد رأيه)
بقينا في المعرض ثلاث ساعات. بعد ذلك، هاتفت الشاعرة الفلسطينية راوية مرة، اتفقت معها على اللقاء في مطعم شنغهاي. مشينا، موسى صرداوي وأنا، مدة عشرين دقيقة أو أكثر قليلاً حتى وصلنا المطعم. جاءت راوية، (إنسانة طيبة ذات روح اجتماعية مرحة، منفصلة عن زوجها منذ وقت، وهي الآن في أوج شبابها) تناولنا طعاماً صينياً، وتبادلنا الحديث حول أمور شتى بينها الأدب والسياسة وأخبار الوطن. (تعجبني بعض مفردات راوية وهي تتحدث عن الوطن، تسألني مثلاً: أيمتى نازل لهناك؟ على اعتبار أنها مقيمة في أعالي المعمورة، في الشمال) غادرنا المطعم، ذهبت راوية إلى بيتها، ذهب الصرداوي إلى بيته، وعدت أنا إلى الفندق. 
ارتحت بعض الوقت، تأملت حياتي التي تمضي نحو المجهول، شعرت بشيء من الأسى، ذهبت أنا وبقية أعضاء الوفد لحضور أوبريت غنائي بعنوان “الراكب الأسود” يؤدي الأدوار فيه عشرة ممثلين وممثلات. تقول الحكاية إن رجلاً جاء ليخطب فتاة من أبيها، لكنه غير بارع في الصيد، أعطاه الأب رصاصات مسحورة تقتل الطيور والحيوانات في الغابة، حتى لو لم يصوب عليها تماماً. أكثرَ الرجل من إطلاق النار. أخيراً، يطلق رصاصة على طائر، ترتدّ الرصاصة على الفتاة في يوم عرسها، تقتلها، وينتهي الأوبريت بعد مشهد موت عبثي! 
نغادر المسرح وصوت إطلاق الرصاص يلعلع في رؤوسنا. أتهيأ في ساعات الليل، لسفر مبكر عائداَ إلى الوطن. الوطن المفتقر إلى الطمأنينة والأمان.
________
*روائي فلسطيني وقاص 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *