الأذُنيّ


*توفيق قريرة


نظرت من نافذة النزل الجبلي إلى ملتقى الأرض والسّماء.. كانت نُذُرُ العاصفة مفزعة: سوادٌ في بياضٍ في رياح في أتربة.. لمّا صارت النّذر قريبة أكثر والغضب منها كبيرا.. تَسلّلتْ كالبلسم قطراتُ المطر.. ربَّتَت على قفا العاصفة.. انتهى كلّ شيء.. بكت السّماء والعاصفة سَاكنة.. تغيّر الهواء.. صار المزاج ألطف.. هدأت عاصفتي.. ربّتّ على كتف زوجتي وقد كانت تراقب المشهد.. 
أنا وزوجتي هنا في النزل الطائر فوق الجبل منذ يومين في انتظار دورنا مع الأذُنيّ.. لا أحد يعرف كيف جاء الأذنيّ إلى هنا؟ مَا السِّحْر الذي له حتّى تريد النسوة سَرْدَ حكاياتهن المختلفة على مسمع منه دون مرآى؟ هل يعقل أن تعشق المرأة أذنا لا تفعل شيئا غير أن تسمعها؟ 
المشكلة أنّه ينبغي أن يقضّي من التقى الأذنيّ ليلة أخرى في النّزل.. لأنّ الحافلة التي تقلّ الناس إيّابا وذهابا ولا تفعل ذلك إلاّ مرة واحدة: في السادسة صباحا تحمل المغادرين وفي الثامنة ليلا تأتي بالوافدين.
في الليل يسهر الأزواج الذين قابلوا الأذنيّ في حديقة الجبل المفتوحة، هم يجلسون في أعلى التلة.. ويجلس غيرهم ممّن لم ينلهم شرف اللقاء في أسفل التلّة.. أزواج أعلى التلة يجلسون هناك لتقصّ النساء ما قلنه للأذنيّ وما قاله لهن.. كانت الأنوار خافتة والآذان متشوقة وكان ما يشتاق إليه الجالسون في الأسفل وفي الأعلى قولُ الأذنيّ حين ينقلونه يصبح موضوعَ تأويل وقد تُنسى حكايات المتن.. أنا أشك في أنّ النساء يتهافتن على الأذنيّ لا ليحكين ما لديهنّ بل ليسمعن جملته الأخيرة المؤذنة بانتهاء المقابلة..
قالت إحداهن قلت للأذنيّ: كنت على دكّة في منزلي جلست أتملّى السّماء. ما كانت الشمس قد غابت ولكنها كانت تؤذن بالمغيب. رأيت وجهه: كان على دكّة هناك في السماء.. كان قمرا ينتظر الشمس أن تغيب ولأجله هو فقط كانت ستغيب إنّه حبيبي هل عرفته؟ قال الأذنيّ : لماذا غبتِ وقد كان على دكّة هناك في القمر قمرٌ ينتظر منك أن تحضري؟
قالت أخرى: كالملغزة المبهمة: قلت له: عشقي كبر يوما بعد يوم لقد زاد ولعي به عندما عشقت حروفه اليتيمة التي لا يحبّرها أحد غيره.. كتب لي ذات مرة :أخجل من أن أذهب إلى البحر بمفردي.. سيقول لي أين زبدي الذي كان معك؟ أخشى إن أنا انزويت بين أشجار الغابة أن يقول لي الجبل: وأين ريح الصّعتر الذي كان معك؟ أخاف من أن أعود مفردا إلى بيتي.. ستسألني حين تفتح لي الباب: أين تركتني وعدت وحيدا؟ قال لي الأذنيّ: معي زبدُك وصَعْتَرُك فكيف أتركك؟ قال زوجها مبتسما: ماذا ترك لي؟ قالت: عُدْ إذن وحيدا ودعني هنا.. ضمّها إليه وضمّ كلّ رجل زوجَه إليه حتّى أنا ضممتها إليّ زوجتي.
قالت أخرى: أنا أيضا جئت إليه هو وقصدته بكلامي فقلت له: لقد عذبني حبيبي أقول له: أنت حظّي من دنياي فهل بك أقنع؟ فيقول لي: الحظ الذي لاقاني بك إمّا شرّير وإمّا أحمق؛ وعندما كنت أحملق في تجاعيد وجهه وأجعل حاجبي يسأل عينيه التفصيل. يقول لي: هو شرير لأنّه أراد أن أُعنّى بكِ وأحمق لأنّه فرّط فيك. وفي يوم سقطت تفاحة من الشجرة التي كنا نجلس تحتها.. أخذتها فقضمتها.. افتكّها فمسحها وأعادها إليّ.. قال لي: لو كان نيوتن معك لَمَا احتاج قانون الجاذبية.. سكت الأذنيّ وقال: ما نفعنا منك إن لم نظفر بقانون الجاذبية؟
من الغد حين جاء دور زوجتي دخلت معها قال لي حاجب هناك: لا يَدخُلَنْ على الأذنيّ إلاّ النساء. التفتتْ زوجتي تحثّني على أن أستجيب.. كان بي كالعطش لأن أبحث عن الأذنيّ.. سرْتُ أبحث عن منفذ إليه أسترق منه النظر.. وجدت بابا خلفيا صغيرا.. دخلت.. كانت رائحة سحرية تنبعث من الداخل جذبت أنفي إلى أن أوصلت قدمي إلى منحوتة كبرى.. كانت المنحوتة أذنا محفورة في الحائط…. يوصل إليها درج ينتهي إلى مقعد..صعدت.. تناهى إلى سمعي من ثقب طبلة الأذن صوت زوجتي وهي تقول: أنا في حضرتكم أيّها الأذنيّ العظيم.. هل تأذنون لي بالكلام؟ تسمّرت في مكاني.. لم يتكلّم أحد.. أعادت كلامها فحمحمت بما يعني الموافقة.. قالت: ماذا أقول لك أيّها الأذنيّ العظيم.. لم يبق في أذني من القصص الأولى إلاّ حواري مع حبيبي الذي يسكن عقلي وروحي.. قلت له مرّة: أنا مَدينة. فقال لي : وما تراني أكون؟ قلت: تخيّر اسْما مذكّرا وتسَمّ به. قال: ما رأيك في الطريق؟ قلت: هذا قليل.. قال: إنّه سيكون موصلا إليك. قال: أو بحرا يحيطك من كل صوْب؟ قلت: إني إذن لجزيرة؟ قال: أمْنية كل بحر أن يعزل لنفسه كلّ مدينة. قلت: إن كان هذا حقّا فلن يكون ههنا عدلٌ. فقال: سأجلب المراكب تسافر إليك، وأكون منتهى أودية من دموع الفرح قادمة منك إليّ وجعافر مِن دموع مَنْ لم يصلك منك إليك.. قلت وعلى وجهي بشاشة آسرة: من يا تراه يسكن قلب المدينة؟ عندها انطلق لساني وأنا أكاد من الحزن يقضى أجلي فالمتحدّث عنه غيري وقال: سيبقى وسط المدينة فارغا.. وأجهشت بالبكاء.. جاء من يطلب مني أن أنزل من الأذن.. سألته وأين الأذنيّ؟ لمَ لمْ يقل شيئا؟ أيريد هو أن يسكن في قلب مدينة أنثاي؟ قال لي وهو يهدّئ من روعي: أنت الأذنيّ.. لا يوجد أذنيّ غيرك الآن.. لكن سيبدأ دور غيرك.
في تلك الليلة وفي حديقة النزل الجبلي اجتمعنا كنت وحبيبة من يسكن غيري عقلها وقلبها في التلة العليا.. حكت زوجتي شيئا آخر غير بوحها بقصة بطلها غيري.. ولكنها نقلت كلام الأذني بوفاء.. وتعجّبت منه.. التفت إليّ كلّ الرجال الذين كانوا هناك.. حدقوا في عيني.. أمّا الرجال الذين لم يحن دورهم فحدّقوا في وجوه زوجاتهم.. ضمّ جاري زوجته إليه.. وجاري الآخر.. أنا أيضا ضممتها إليّ زوجتي.. قلت لها: متى ننزل إلى قلب المدينة؟ قالت: لماذا أنت متعجّل.. مازال الليل يلفّنا..غدا قبيل شروق الشمس.. نسافر…
حين بدأت أطرد النوم الذي يكحّل جفني كانت امرأة في التلة تقول: نعيش لأنفسنا قليلا وفجأة ومن دون إشعار مسبق نقرّر أن نعيش لغيرنا كثيرا.. غيرنا قد لا يعرف أنّا إنّما نتنفّس برفق وإشفاق على أنفسنا فقط لأجله. قلت لها: سيقول لك الأذنيّ : إن قابلتموه لا تخبروه لأنّه يسكن فينا. قالت المرأة: وكيف عرفت؟ قلت: كنت هناك.. ابتسم الرجال وضمّ كل رجل زوجه..حتى أنا ضممتها إليّ زوجتي.
٭ كاتب من تونس
_______
المصدر: القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *