شوبنهاور.. ناقد المثاليات المُغيّب


محمد الصالح قارف


رغم مرور أكثر من قرن ونصف على رحيله، لم ينل الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (1788 – 1860) مكانة معتبرة داخل الفكر العربي المعاصر، بعكس فريدريك نيتشه الذي تأثر به، وفرضت فلسفته غوايتها على المشهد العربي.

قد يعود إهمال شوبنهاور قبل كل شيء إلى كسل معرفي، حيث حوصر نتاجه ضمن رؤية عامة وسطحية لتاريخ الفلسفة في القرن التاسع عشر، وفُرِضت عليه تصنيفات عديدة كان أبرزها التشاؤم، فيما وُجّهت المحاولات الخجولة لدراسته نحو خلاصات مُعلّبة.
وإذا كان هيغل قد نجح في تسيّد الفكر الغربي زمناً مديداً، فإن ذلك يرجع -حسب ما يلاحظه شوبنهاور نفسه- إلى الغموض والتعقيد الذي انتهجه هيغل، وقد استفاد هذا الأخير من خصوصية اللغة الألمانية التي تتيح مزاوجة عدة كلمات/مفاهيم مع بعضها خالقة مفاهيم أخرى جديدة.
هكذا، راح “المفكر اللوثري الأجوف”، بتعبير شوبنهاور، يتكوّر ويصنع لنفسه هالة فلسفية مبالغاً فيها. وبالرغم من أن تُهمتيْ الغيرة والحسد لاحقتا شوبنهاور؛ لأن هيغل كان يستقطب الطلبة في جامعة برلين عكس محاضرات الأوّل، التي كانت تخلو من المستمعين.
إلّا أن المتمعّن في قراءة مآلات أفكار القرن التاسع عشر سيكتشف أن شوبنهاور كان ينطلق من الجرأة كمعيار للتفكّر الفلسفي، ومن هنا نقده القاسي للمثالية، وأن منجزه لم تخالطه في أي مرحلة من مراحل تطوّره شوائب الرجعية والوثوقية.
لعل هذه القيم التي فرضها شوبنهاور على نفسه، ودعا أن تمتدّ على كل اشتغال فلسفي، تفسّر شيئاً من عدم انسيابية أفكاره ووصولها إلى أبعد مدى.
كان عبد الرحمن بدوي مفتتِحاً للحضور الشوبنهاوري في الفكر العربي، إلا أن الحماسة الزائدة لبدوي الشاب آنذاك؛ دفعته إلى تغطية جوانب وإظهار أخرى بشكل سيطرت فيه الميول الفلسفية والأيديولوجية للمؤلّف؛ إذ إنه من الأسهل العثور على بدوي أكثر من شوبنهاور داخل طيّات عمله.
توالت، بعد ذلك الكتابات والمقالات العربية التي تعاملت مع فكر شوبنهاور، ولم نجد بعد من حاول دمجه أو استغلاله وفق الخصوصيات العربية، فأعيدت معظم أفكاره كتصوّرات نمطية، مثل ما نجده في كتاب وفيق غريزي “شوبنهاور وفلسفة التشاؤم”، حيث لم يتعرّض المؤلف إلى عدة جوانب من الفيلسوف، فمثلاً وبالرغم من أنه أفرد فصلاً كاملاً للحديث عن “شوبنهاور والمرأة” لم يذكر العلاقة الصدامية التي جمعت بينه وبين أمه الروائية يواهانا شوبنهاور صاحبة الصالون الأدبي الشهير في مدينة فايمار، الذي تردد عليه أشهر الكتاب الألمان.
كما ظهرت محاولات أخرى خجولة في العربية، اتخذت المنطق البنيوي الذي يفصل بين النص وصاحبه فصلاً مميتاً، ولم تحاول تناول جوانب مهمة مثل سعي شوبنهاور في كتابه “شذرات حول الحكمة في الحياة” إلى ربط الفلسفة مجدداً بالعلوم الطبيعية، متوسلاً بهذا الربط نقد الميتافيزيقا الغربية التقليدية.
أما عن ترجمة أعماله إلى العربية، فقد وجب الانتظار حتى عام 2006 لظهور ترجمة كتابه “العالم إرادةً وتمثلاً” (المركز القومي للترجمة)، يُطَمْئِن صاحبها، سعيد توفيق، في مقدمته إلى أنها “ستضارع أفضل نظائرها في اللغات الأخرى، وستفوق على الأقل الترجمتين الإنجليزيتين المعروفتين”، ثم ظهرت عام 2014 ترجمة صادرة عن “منشورات الاختلاف” لكتابه الصغير “فن أن تكون دائماً على صواب”.
ثمة الكثير من العوامل التي تفسّر تهميش شوبنهاور في العالم العربي. لقد فرض الاستعمار مساراً سياسياً وثقافياً ظل مهيمناً إلى اليوم حتى بعد استقلال البلدان منذ منتصف القرن الماضي.
سنجد، بنظرة على ذلك المسار، أن العقول العربية اتجهت صوب الدوغمائيات مكتفية بما فيها من شعارات، أبرزها تلك الموجة اليسارية، التي تُعدّ أصلاً ذات جوهر هيغلي برغم صبغتها المادّية.
توافدت الأيديولوجيات إلى العالم العربي، وتذرّعت بها أنظمة شمولية وقمعية من أجل الاستيلاء على السلطة والاستمرار فيها؛ فشرعَت نخبها في بث المديح والتبجيل الهيغلي للدولة بوصفها “المحقق الفعلي للوعي الذاتي” و”درجة سابقة على المجتمع”.
وتِباعاً -وباستثناءات قليلة- “أَمْثَلتْ” الأنظمة المتعاقبة، والمنقلبة على بعضها، ممارساتها السياسية وأيديولوجياتها بوصفها حقائق تعلو على التاريخ والدينامية، وخلقت معارضةً على صورتها، كما قامت بتبديد فرص تبلور المجتمع المدني، مشيّدة أسيجة دوغمائية حول الفعل السياسي؛ ما وفّر مناخاً خصباً لإنتاج نقيضها الأيديولوجي المُغري: حركات التطرّف الديني التي هي بدورها مثالية متعالية ومفارقة للواقع.
من زخم الدوغمائيات والمثاليات هذا، ظهرت أحلام التغيير في المنطقة العربية في بداياتها، كمحاولة لاسترجاع القدرة على الفعل التاريخي، أي محاولة “أرضنة” الفعل السياسي واستبدال القيم الخلاصية للطوباوية القومية، بقيمة الحرية التي ظلّت شبه غائبة عن قواميس الممارسة السياسية العربية؛ وهي بذلك تحاكي جانباً من الروح الشوبنهاورية التي تفطّنت مبكراً لمداهنة الفكر الهيغلي للدولة البروسية، وتصدّت لذلك فكرياً، بالرغم من التكلفة الباهظة لهذه العداوة.
كانت “عبادة شوبنهاور للحقيقة”، كما لاحظ كاتب سيرته روديغر سافرانسكي، ملهمة له في العزلة المعرفية الصعبة، لكن الفيلسوف الألماني تميّز بإيمان عميق بمستقبلية أفكاره وإن آمن أيضاً بـ “عدم جدارة عصره به”، ما جعله مواظباً على استكمال مشروعه، حتى شهد في أواخر حياته بداية صعود نجمه الفلسفي.
إن استحضار القيم التي دعا إليها شوبنهاور، من دحر للشعوذة الفكرية وطلب للمعرفة النقدية والانفصال عن الدولة، يبدو ضرورة ملحة يفرضها ارتكاس الواقع السياسي العربي ضمن نزوع بعض من أجزائه إلى استعادة رمزية لطوباوية بائدة، مثل ما نشاهده اليوم في مصر، مثلًا؛ حيث تستعاد الشعارات الناصرية؛ ويستعملها الساسة والإعلام لتجميل الانقضاض الدموي على السلطة.
لعل من تقاطعات شوبنهاور مع الشرق، هو التفاته المبكّر إلى الفكر الشرقي، خصوصاً إلى التراث الفكري للشرق الأقصى، وتبيانه عدم مركزية الفلسفة الغربية على مستوى العالم. أُعجِب شوبنهاور أيضاً بالروح الصوفية للبوذية وأسفار الأوبانيشاد الهندية.
هذه الملاحظات الصغيرة، تشير إلى انفتاح قلما نجده لدى المفكرين العرب، حيث إن المركزية الغربية تبدو جلية لديهم ضمن “ولع تقليد المغلوب للغالب” كما كان يقول ابن خلدون، ما أكسبنا تبعية امتدّت إلى السياسة، فجرى تجاهل القُربى المكانية والفكرية مع الفكر الشرقي.
العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *