فراديس الروائيّ المتخيلة


هيثم حسين


كيف تكون علاقة الروائي مع مدينته؟ هل هي علاقة تنبني على تقديس المدينة وتجاهل سلبياتها والتعامي عن مكامن الخلل والعبث فيها؟ إلى أي حدّ يمكن للروائي رسم مدينة خياله الموازية لمدينته الواقعية بحيث يسبغ عليها تصوّراته لها وعنها؟ هل يعكس الإبحار في الخيال بحثا عن المدينة الحلم هروبا من الواقع الذي قد يفسد ذاك الحلم؟

تحظى الحواضر عادة باهتمام الأدباء والفنانين والكتاب والرحالة، فضلا عن الساسة والتجار والزوار والسياح وغيرهم من أرباب المهن والمصالح، وتمتاز كل مدينة بأهمية تختص بها تميزها عن غيرها، بحيث لا يمكن أن تحل مدينة محل أخرى في قلوب عشاقها وأرواحهم.
كل مدينة يسكنها الكاتب أو يمر بها هي بالنسبة إليه محطة يعود إليها بين الفترة والأخرى في أعماله، وحين يتعلق كاتب ما بمدينة، قد تكون تلك مدينة مولده أو مدينة خياله وحلمه وحياته، يحولها إلى مسرح لأعماله، يضفي عليها صوره المفترضة عنها وأحلامه المتخيلة فيها، يبقيها مثالا للمدن الحُلميّة، وإن كان يتعامل معها بمنطق المنقب بين زواياها والكاشف لخباياها وأسرارها.
ربما يكون من باب الصعوبة بمكان تعداد مَن استحضر المدن في كتابته أو منحها البطولة المكانية، ودون أن يعني ذلك تقديسها بعيدا عن اعتبارات ما يمكن أن يصادفه المرء فيها من حيل وتزييف أو مداهنة لأن المدن بطبيعتها الحاضنة لمختلف التيارات والتوجهات والبشر حيث تشتمل المفارقات والتناقضات أيضا، وهذا لا يعيب أية مدينة، لأن الواقع يثرى بكل مختلف وجديد.
وكما يقال إن جمال الأمكنة يكون بناسها لا بأحجارها فقط، فإنّ الأدباء لا يبقون أعمالهم مقتصرة على مظاهر المدن، بل تراهم يتعمقون بين طياتها، يغوصون في قيعانها، يحفرون في طبقاتها، يرتحلون في أزقتها وأروقتها، يسلكون سبلهم معتمدين على ما تقودهم إليه من فتنة وغواية.
يخترع الروائيّ أحيانا مدينة تكون جمعا من عدّة مدن يعشقها، أو يتخيّل عظمتها وجمالها، يضفي عليها أمنياته وأحلامه عمّا يشتهيه لها، تكون فردوسه الروائيّ الذي يلوذ به، يحتمي من شرور المدن الواقعيّة وقهرها وضغطها، ينقل أحاسيسه عنها إلى قرّائه، يهندسها لهم بحيث يشعرون بنبضها وحيويتها وتجدّدها مثله.
لكلّ امرئ من المدن مدينته الأثيرة الخاصة المختلفة عن مدينة غيره، ولكلّ زاويته من المدينة، وصوره وذكرياته عنها، كما أنّ لكلّ امرئ مدينته التي يشعر بأنّها فردوسه المفقود، أو المنشود، واللافت أنّ الفردوس الواقعيّ غائب، وكأنّه الواقع مبدّد للأحلام. ومن هنا يمارس الحنين سطوة من نوع خاصّ، ليدفع إلى محاولة استعادة ذاك الفردوس المتخيّل عبر الكتابة.
العرب

شاهد أيضاً

ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات في الدول الغربية؟

(ثقافات) بمناسبة افتتاح معرض لندن للكتاب 2024: ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *