من أدب الرحلات/ ستوكهولم بعد انتظار طويل(1)


* محمود شقير



خاص ( ثقافات )
الرحلة الأولى
كانت زيارة السويد حلماً قديماً لا يغادرني.
ذات مرة وأنا مقيم في عمان، أعجبت بالسينما السويدية، وبأفلام إنغمار بيرغمان بالذات. وصادف أن أقيم في عمان أسبوع للفيلم السويدي أوائل الثمانينيات، انقطعت له أنا وصديقي الدكتور وليد مصطفى. لم نترك فيلماً من أفلام الأسبوع السينمائي إلا شاهدناه. 
منذ ذلك الوقت وأنا راغب في زيارة السويد، ليس بسبب السينما السويدية وحسب، إنما كذلك، بسبب ما سمعته وقرأته عن بلاد سعيدة، ومجتمع متقدم اختط لنفسه طريقاً سلمياً معتدلاً نحو العدالة الاجتماعية، فأصاب حيناً وأخفق حيناً آخر.
وصلت إلى ستوكهولم ضمن وفد من وزارة الثقافة الفلسطينية برئاسة الوزير ياسر عبد ربه، وعضوية ليلى بطران وجاك برزخيان. وصلنا إليها في الخامسة بعد ظهر يوم الأربعاء (2/4/1997). كان الطقس معتدلاً إلى حد ما، (درجة الحرارة 13 مئوية) فرحت لذلك بسبب خشيتي الزائدة من الطقس البارد. وجدنا في استقبالنا عدداً من الموظفين والموظفات في وزارة الثقافة السويدية، ركبنا السيارات إلى فندق بلازا في وسط ستوكهولم. (يبعد المطار 40 كيلومتراً من مركز المدينة) لاحظت أن شوارع المدينة خالية من حشود الناس، وهذا مخالف لما درجت عليه العادة في المدن الأوروبية الكبيرة. أخبرتنا المرافقة كريستينا ذات الجمال الهادئ، أن الاحتشاد يحدث عادة في الصيف، أما في بقية أيام السنة، فالحركة خفيفة في الشوارع والأسواق. أخبرتنا كذلك، أن كثيرين من الناس غادروا العاصمة إلى مناطق أخرى لقضاء إجازاتهم فيها بمناسبة حلول عيد الفصح. 
أقمت في الطابق السابع من الفندق، في غرفة مطلة على قطاع واسع من المدينة. كنت مسروراً لأنني وصلت إلى ستوكهولم بعد سنوات من الانتظار، ولأنني سأجد بعض الراحة بعيداً من تناقضات الوضع الانتقالي الذي نعيشه فوق أرض الوطن. ثمة على الحائط لوحتان توحيان بالهدوء والدعة، واحدة متوسطة الحجم يظهر فيها رجل بملابس من العصور الوسطى الأوروبية يقف منحنياً احتراماً لامرأة. اللوحة الأخرى صغيرة الحجم مرسومة بالألوان المائية، لبحيرة فيها سرب من البط، وبالقرب منها جبل صخري. 
بعد قسط من الراحة، أخذنا مضيفونا إلى البلدة القديمة، نزلنا إلى مطعم تحت الأرض، مكون من بناء قديم، ينتشر الدفء في زوايا المطعم، وثمة نساء ورجال يتناولون الطعام، ويشربون أنواعاً مختلفة من الخمور، يثرثرون باعتدال ويضحكون. أحسست أن الحياة تسير رخية مسترسلة حينما لا يكون ثمة احتلال. رثيت لحالنا نحن الذين نعيش تحت الاحتلال. كان معنا د. أوجين مخلوف، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في السويد، وهو رجل مهذب. تبادلنا أحاديث شتى مع مضيفينا ونحن نأكل سمكاً مطبوخاً بطريقة متقنة. 
في اليوم التالي لوصولنا، لاحظتْ ليلى من شباك غرفتها أن السماء صافية لا غيوم فيها. رأت من خلف الزجاج شمساً ساطعة، راق لها أن تخرج في الصباح المبكر بملابس ربيعية، للتمشي قليلاً في الشارع المحاذي للفندق. مشت في الشارع، ولم تكن تدري أن درجة الحرارة قريبة من الصفر المئوي. حينما عرفت ذلك، أخذ جسدها يرتعش من البرد، وعادت مسرعة إلى غرفتها لكي ترتدي ملابس دافئة. (أصبحت درجة الحرارة أعلى بعد ساعات) أجرينا في ذلك اليوم وفي اليوم الذي تلاه، عدداً كبيراً من الاجتماعات مع مسؤولين سويديين من وزارة الخارجية ومن وزارة الثقافة، ومن بعض المؤسسات غير الحكومية. كانت اجتماعاتنا مثمرة، تركزت على الدعم الذي يمكن أن تقدمه لنا المؤسسات السويدية المختلفة، لمواصلة بناء حياتنا الثقافية التي دمرها الاحتلال. (تعرفنا إلى فتاة فلسطينية شابة من أحد مخيمات قطاع غزة، تقيم في السويد منذ سنوات طويلة، (عدد الفلسطينيين هنا خمسة آلاف شخص) وهي الآن عضو في البرلمان السويدي، اسمها إيفون روايدة، لا تعرف إلا القليل جداً من اللغة العربية، يعمل والدها مستشاراً في إحدى الدول العربية. أخبرتنا بذلك، ونحن نغادر مقر اللجنة البرلمانية السويدية، وهي ناشطة في الدفاع عن الشعب الفلسطيني وقضيته) 
على الصعيد السياسي، أجرى الوزير ياسر عبد ربه حوارات مع بعض المسؤولين، وألقى محاضرة في مركز أولف بالمه حول أوضاعنا السياسية. (رأيت لأول مرة، “راوية مرّة” الكاتبة الفلسطينية المقيمة في السويد منذ أحد عشر عاماً. لفتت نظري الكلمات الحادة التي وجهتها للسلطة الفلسطينية أثناء الحوار الذي أعقب المحاضرة، خصوصاً ما له علاقة بسلوك السلطة القاسي تجاه المعتقلين الفلسطينيين في سجونها، وبموقف السلطة عموماً من قضية حقوق الإنسان. كان النقد صحيحاً في الكثير من جوانبه. لم أتمكن من التحدث مع راوية بعد انتهاء الحوار، لأنها غادرت المكان فوراً)
كنا نقطع نشاطنا اليومي بين الحين والآخر، لزيارة بعض معالم المدينة. زرنا السفينة السويدية “سافا” التي غرقت قبل أكثر من 300 عام في البحر القريب من ستوكهولم، بعد إقلاعها بدقائق، أثناء رحلتها الأولى والأخيرة. كان ثمة خلل في بناء السفينة، حيث ارتفاعها أكثر مما ينبغي، وعرضها أقل مما ينبغي، (في بلادي، يتداول الناس طرفة حول عدم التناسب في القياسات، تقول: ترافق رجلان في سفر، وكان أحدهما ميالاً إلى المبالغة والكذب. قال له صاحبه: أنت تبالغ كثيراً حينما تتحدث، لذلك فسوف أتنحنح حينما تبالغ في كلامك، وفي هذه الحالة، عليك أن تخفف من مبالغاتك. اتفقا على ذلك، وفيما كان الرجلان يسمران مع بعض الناس الذين استضافوهما، قال الذي يبالغ في كلامه: ذات مرة، سافرت إلى مدينة بعيدة وشاهدت بناية ارتفاعها ألف متر! تنحنح الآخر فانتبه زميله، وأكمل كلامه قائلاً: أما عرضها فهو متر واحد) ما أدى إلى غرقها، وغرق ثلاثين بحاراً سويدياً كانوا على ظهرها. في العام 1956 تم انتشال السفينة من قعر البحر، وجرت جهود حثيثة لإعادة ترميمها، ثم أصبحت مزاراً للسياح ولأهل البلاد. شاهدنا مجموعة من التماثيل المثبتة على جسم السفينة الخارجي المصنوع من الخشب. 
لدى اقتراب موعد الغداء، اتجهنا إلى قلعة “هاجا” التي تعود ملكيتها للحكومة، (هي بناية تشتمل على قاعات فسيحة وغرف واسعة. تحولت إلى دار للضيافة، يحل فيها كبار الضيوف من كل أنحاء العالم. حلّ الرئيس ياسر عرفات فيها العام 1988 ضيفاً على الحكومة السويدية، وجرت فيها مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين آنذاك) حضرتْ حفل الغداء وزيرة الثقافة التي تبدو بالغة الحيوية والنشاط، وعدد من العاملين في الحقل الثقافي، وكذلك “راوية مرّة” التي جلست إلى جواري. كنت معنياً بالتعرف إلى تجربتها في الكتابة، أخبرتني أن لديها رواية مخطوطة ستكون جاهزة للنشر في وقت قريب، إذا سار كل شيء على ما يرام. راوية شاعرة فلسطينية شابة، هاجرت من لبنان إلى السويد أثناء الحرب الأهلية، وهي ممتلئة الجسم ولكن باعتدال. سمعت باسمها أول مرة قبل أسابيع، حينما انعقد في جامعة بير زيت المؤتمر الثقافي الفلسطيني الذي نظمه اتحاد الكتاب الفلسطينيين، ودعا إليه جمهرة من الكتاب من بعض البلدان العربية ومن العالم. قدمت ناقدة سويدية مداخلة في إحدى جلسات المؤتمر، حول الشعر السويدي. تناولت فيها الشعر الذي يكتبه باللغة السويدية شعراء غير سويديين، وخصّت بالذكر “راوية مرة”. قالت إن في شعرها وفي لغتها إضافات جديدة إلى الشعر المكتوب في السويد. 
في المساء ذهبنا إلى أحد المسارح لحضور حفل باليه، قُدمت فيه خمسة مشاهد راقصة، تتفاوت في ما بينها في الجودة حيناً والرتابة حيناً آخر. 
استمر الطقس طوال اليومين الماضيين معتدلاً رغم البرودة النسبية في ساعات الليل. لم أتعرف إلى المدينة بشكل جيد، فالوقت ضيق، والاجتماعات كثيرة. كنا في أغلب الأحيان نذهب إلى الاجتماعات مشياً على الأقدام، فالأماكن التي نقصدها ليست بعيدة من الفندق. أتاح لنا ذلك فرصة للتجوال في بعض أحياء المدينة وشوارعها، خصوصاً شارع بيبليوتيكس المخصص للمشاة وللمتسوقين والمتنزهين. تجولنا في البلدة القديمة في ستوكهولم، حيث تناولنا طعام العشاء أول ليلة. كنت أتأمل جمال المدينة أينما ذهبت، وأتذكر بين الحين والآخر السينما السويدية، وأفلام إنغمار بيرغمان التي أعجبت بها، ولم أكن أعرف شيئاً عن دار المنى لنشر كتب الأطفال، ولم أكن قد قرأت أي كتاب للكاتبة السويدية أستريد لندغرين. لذلك، ظلت معرفتي للمدينة ناقصة، لا تشفي الغليل.
في اليوم الذي سبق مغادرتنا للمدينة، وفي ساعات ما قبل المساء، ذهبنا إلى متحف “فاسا” المقام على جزيرة داخل مدينة ستوكهولم، وفيه معرض للوحات بيكاسو وتماثيله التي يستوحي فيها ثقافات حوض البحر المتوسط. أهدتنا مسؤولة في المعرض نسخاً من الكتاب- الكاتالوج الذي يحتوي على رسوم تمثل أعمال بيكاسو المعروضة هنا. كانت تلك أجمل ذكرى أحملها معي من هناك.
_________
*روائي وقاص من فلسطين 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *