«داعش» وانتشاء العقل الغربي


*شيرين أبو النجا

ظهرت الدراسات «المناطقية» في الولايات المتحدة الأميركية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبداية الحرب الباردة، فالمفكرون الغربيون شعروا حينذاك أن الاتحاد السوفياتي والصين يشكلان تهديداً، وحصلت غالبية المناطق التي كانت واقعة تحت الاستعمار على استقلالها، لكنها كانت مناطق مجهولة من العقل الغربي. في هذا السياق وتحديداً في الخمسينات من القرن الماضي، عقدت مؤسسة فورد وروكفلر وكارنيجي سلسلة من الاجتماعات بهدف الوصول إلى إجماع على ضرورة معالجة هذا النقص المعرفي. كان هناك العديد من الآراء المتعارضة، إلا أن الرأي القائل بتطوير المعرفة بهذه المجتمعات الجديدة من داخلها، بحيث يتم الاحتفاظ بخصوصية السياق، كانت له الغلبة وتحول إلى الأساس الذي قامت عليه الدراسات «المناطقية» في أميركا بدعم قوي من مؤسسة فورد التي منحت في الفترة من 1953 وحتى 1966، 270 مليون دولار لحوالى 34 جامعة أميركية. وعموماً تعرضت الدراسات «المناطقية» منذ بدايتها للكثير من النقد، حتى من المشتغلين بها. فقد أعرب العديد عن قلقهم من ارتباط هذه الدراسات بأجندة السي.اي. ايه والأف. بي.أي. والكثير من الوكالات العسكرية والاستخباراتية الأخرى، وهو ما يجعل المشتغلين بالحقل بمثابة عملاء لهذه الأجهزة. بالطبع، حدثت نقلة كبيرة في مجال هذه الدراسات، وجرت مياه كثيرة في نهر البحث العلمي، لكنّ المسألة تبقى شائكة. فيكفي أن يُفتتح قسم لدراسات الشرق الأوسط ليضم تحت مسماه كل حقول البحث والمعرفة. وقد شاهدنا كيف انتعش هذا المجال في التسعينات من القرن الماضي عندما انفجرت حرفياً دراسات الجندر في العالم الثالث والتي اتخذت منحى كولونيالياً كاملاً، يُعظم من مجرد ظهور النساء في المجال العام وكأن الأصل في الموضوع هو غيابهن. وقد خرجت الدراسات الإسلامية من عباءة الدراسات «المناطقية»، وأذكر أنني استمعت إلى بحث في جامعة ليدن -هولندا يشرح تفصيلاً كيفية الوضوء، ويُفسر معنى كلمة «القبلة».
والحقيقة أنه بمجرد صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم في مصر، توالت فوراً الأبحاث التي تجمع بين الجندر والإسلام، وتُعظم من شأن تفاصيل حياتية يومية. وفي ورشة عمل مغلقة في انكلترا عام 2013، عرضت طالبة دكتوراه ايطالية ملخص أطروحتها، وكان موضوعها هو «الأخوات المسلمات» وعقلهن الليبرالي وانفتاحهن على الآخر. إلا أن التغريدات التي قامت الباحثة بتجميعها كانت كلها لرجال، أما الطالبة فاعتقدت أنها أسماء نساء. وهكذا يتوالى الارتباك في هذه الأبحاث، وهو مكمن الخطورة، إذ تُعتبر نتائج البحث إحدى الأدوات المُعينة على فهم المجتمع. وتكفي مراجعة سريعة لكافة الأبحاث الممولة من مؤسسات أميركية لفهم ما يبحث عنه العقل الغربي من أجل تصعيد نموذج بعينه وتبني خطابه تحت ذرائع الديموقراطية. وهذه النوعية من الأبحاث لا تبقى حبيسة رفوف المكتبات في الجامعات كما هي الحال في بلادنا، بل تتحول إلى مؤشرات في العملية السياسية.
والآن وبعد أن استهلكت الأبحاث الغربية فكرة المجتمعات الإسلامية والأزياء الإسلامية والمطبخ الإسلامي والتاريخ الإسلامي واللغة الإسلامية (عنوان بحث دكتوراة في أميركا يعتبر كل شخصية تقول «السلام عليكم» في ثلاثية نجيب محفوظ مؤشراً على اللغة الإسلامية)، ظهر تنظيم «داعش» في الأفق ليقدم وجبة شهية لدارسي التاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي والجندر في علاقته بالإسلام، وهواة تحليل الخطاب، ولكن الأهم أن «داعش» هو حدث مُعاصر يُبث مباشرة على الهواء. وبغض النظر عن كون «داعش» صناعة أميركية، فقد أدرك الغرب أنه ليس بمنأى عما قضى من سنوات في دراسته. كانت الصدمة المُروعة لتلك المجتمعات التي طالما درست الآخر عن طريق نظرية «الاختيار العقلاني» التي تؤكد أن الإنسان يختار من المتاح لديه في بيئته أكثر ما يلائمه، فكل ما أنفقته من أموال طائلة على برامج التعددية الثقافية قد ذهب هباء. وقد ظهر ذلك بوضوح في أول بريطاني التحق بـ «داعش» ومارس الذبح بمهارة. وهو شاب عمره اثنان وعشرون عاماً وجاء من مدينة كارديف، عاصمة مقاطعة ويلز، وهي المدينة التي استثمرت ملايين الجنيهات في برامج التعددية الثقافية، وفي الاحتفاء بالمسلمين وبالإسلام، سعياً إلى تحقيق فكرة الاندماج الكامل. وتضم جامعة كارديف برنامجاً ضخماً يعمل على هذه الفكرة، ويعقد مؤتمرات بصفة متكررة تتناول نظير التعددية. وعليه فقد كان مشهد هذا الشاب البريطاني الذي استل سكينه وذبح الرهينة هو أول صدمة للمجتمع الغربي الذي اعتقد أنه في مأمن عبر الديموقراطية، ويبدو أنهم نسوا أو تناسوا مقتل المخرج الهولندي فان غوخ على يد أحد الشباب المهاجرين أيضاً. وهكذا أصبح تنظيم «داعش»- الذي تحول إلى ايزيس في اللغة الانكليزية- بمثابة كنز جديد لأبحاث الدراسات»المناطقية»، وكأننا نعود مرة أخرى إلى القرن الماضي حيث كانت المناطق المُتحررة من الاستعمار تقدم المادة البحثية للعقل الغربي. وقد بدأ بالفعل جمع شهادات كثيرة من المهاجرين الذين هربوا من مناطق نفوذ «داعش»، وهي شهادات تُولي اهتماماً كبيراً للنساء.
الحق أننا في مأزق معرفي. فمسألة جمع شهادات الناجين سواء من «داعش» أو من الغرق وتحليل الخطاب الفكري والإعلامي للأطراف التي تدفع البشر إلى الهجرة، كلها آليات تساهم كثيراً في إثراء مجال التاريخ اليومي والشفوي الذي يُقدم طبعة مغايرة للرواية الرسمية. ولا بد أن نراكم في هذا المجال كي لا نتلقى معرفتنا من الخارج بعد أن قمنا بتصدير المادة، ولكن لا بد أن يكون المنظور واضحاً عند تناول هذه الأشكال المتعددة للتاريخ الشفوي. فالغرب يُحلل هذه المادة بوصفها صادرة من الآخر المختلف، الدموي، المتطرف، هي مادة تساعده في فهم عقل- وخطاب- هذا المختلف وتُعظم من شأن الدراسات «المناطقية». أما المنظور لدينا فلا بد أن يكون واعياً بالبنية المجتمعية والاقتصادية والدينية والطائفية التي ساعدت على ظهور «داعش»، وهي بنى متعددة ساهمنا نحن في تشكيلها وكنا فيها طرفاً فاعلاً. ولذلك من الصعب، وغير مقبول في أخلاقيات البحث العلمي أن ندرس مجتمعاتنا بالمنظور الغربي نفسه الذي تعملق على خلفية كولونيالية.
_______
*المصدر: الحياة

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *