«مصائر» ربعي المدهون… رواية المأساة الفلسطينية الشاملة


ميساء الخطيب


ليت جدي بقي هناك.

أمنية قويّة أطلقها لساني بصوتٍ عالٍ، حين انتهيت من قراءة الفقرة الأخيرة في رواية «مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنكبة»، للكاتب والروائي الفلسطيني ربعي المدهون.
هي الجملة نفسها التي جعلتني أعود إلى الصفحة الأولى في الرواية وأقرأها ثانية.
محظوظة أنا إذ نلت شرف قراءة مخطوطة الرواية إلكترونياً، أثناء كتابتها قبل فترة طويلة، فصلا بعد آخر، وحركة بعد أخرى.
وربما كان عليّ الاعتذار من الكاتب، إذ كنت في لحظات كثيرة ألح عليه، وأتعجله لهفة على قراءة المزيد، وزاد إلحاحي حين بلغ الفصل الأخير من الرواية. ولعلّي كنت معذورة في ذلك، فقد شعرت بأنني أمام عمل روائي استثنائي، في بنيته، وأحداثه وحكاياته الدرامية غير المتسلسلة، وأمام مفرداتٍ لغوية وجمل مصوّرة مرئية في غاية الجمال، تفرّد بها ربعي المدهون وحده من بين الروائيين.
نجح الكاتب ومن دون أي عناء – وهنا أشهد له بالذكاء الشديد- في أن يجلسني أمام شاشة، أو يضعني وسط جمهور من المتفرجين، أمام عرض سينمائي أو عمل مسرحي. نراقب ونشاهد ونتأمل شخصياته تخرج من بين السطور، لتقدم مشاهد حقيقية بمشاعر متدفقة، بما فيها الشخصيات الثانوية، التي لا تظهر إلا في أسطر معدودة، أو في صفحة أو صفحتين على أبعد تقدير، وتترك بصمات عميقة قبل أن تنسل بهدوء من بين السطور وتغادر الصفحات.
وصدقت أحاسيسي فعلا، عندما لامست يداي الصفحات التي صارت كتابا ولم تعد مخطوطة، وقلبتها تباعا بلهفة الباحثة عن تلك الأحاسيس التي رافقتني في المرة الأولى.
أربع حركات موسيقية لكونشرتو يبدأ بعكا، ولا تنتهي في مطار اللد مع انتهاء رحلة البطلين وليد دهمان وزوجته جولي إلى فلسطين، التي استمرت عشرة أيام فقط. فالكاتب أخذ العمل بحركاته الثلاث الأولى، وزج بجميع أبطاله في الحركة الرابعة التي بلغ فيها اللحن ذروته، تاركا أوركستراه تواصل عزفها، بينما يلح عليّ النص بالعودة إلى الصفحة الأولى.
في «مصائر» المدهون، يحفظ أهالي عكا وجوه بعضهم بعضا جيدا. يشمون رائحة أي غريب دخل إحدى حاراتهم. وكيف لا؟ وهم من يسندون ظهورهم على سورها الذي هَزَمَ من كان يعتقد أنه لا يُهزم. 
ليس مصادفة إذن أن تبدأ الرواية بمشهد افتتاحي مصور، يحفز على التفكير والتأمل، جاء مشحونا بالترقب والتوقعات: 
«ما أن لامست قدم جولي الدرجة الأولى لسلم الحديد الصدئ الصاعد حتى باب البيت الشاحب مثل سماء حائرة بين الشتاء والصيف، حتى انطلقت أجراس كنائس عكا القديمة، تعلن عن جنازة شيعت من قبل» (ص 13).
جولي جاءت إلى عكا، حيث بيت جدها مانويل أردكيان، وفي حضنها تمثال خزفي له شكل سيّدة، وفي داخله بعض من رماد جسد والدتها العجوز الأرمنية الفلسطينية العكاوية، وقد نقشت عليه عبارة:
«توفيت هنا… توفيت هناك»
أسفلها بخط أصغر
لندن ـ عكا 2012
والمعنى هنا في غاية البلاغة. أما أسلوب وصف الكاتب للمدن الفلسطينية، عكا، حيفا، يافا، المجدل عسقلان، القدس، وقدمها لمن لا يعرفها، فتجعلنا نعشقها، نحن الذين لم نزرها حال الملايين من الفلسطينيين الآخرين، الذين ابتعدوا في المنافي وبلاد اللجوء.
في إحدى فقراته يقول الراوي بلسان وليد دهمان ما معناه: ما أن نعشـــق مدينة حتى نقع في حب مدينة أخرى. وفي ذروة عشق البلاد، يصرخ أحد أبطال الرواية من مطعــــم كالامارس في بطـــن جبل الكرمل، بينما يراقب بحر حيفا: «ولَكْ آآآآآآخ آآخ… ولك آآخ ع هلبلاد، كيف ضيعناها!» ويردّ عليه من في المطعم، رجالاً ونساءً، بصوت واحد ارتج له الجبل: «لَكْ آآآخ وميت آخ». هذه الصرخة لو سمعتها البيوت في مخيمات اللاجئين لاهتزت من أساساتها، فهي صرخة تُلخص مأساة 67 سنة من النكبة والشتات.
الكاتب لا تسكنه غزة فقط، بل يشدّنا من أيادينا ليُسمعنا أكثر اللحظات حميمية، مما لم نعشه مع روائي آخر غيره. يفعل ذلك ثلاث مرات. الأولى، عندما وصل إلى مسقط رأسه في مدينة مجدل عسقلان، وراح يبحث عن طفولته فيها. ومهاتفته، من هناك، والدته التي تعيش في غزة. والثانية، حين نرى والدته من خلال شاشة كمبيوتر في غرفة التحقيق في مطار اللد، تصرخ في وجه شرطية الأمن «الإسرائيلية»: «قرد اللي يسخطك أن شاالله … ايش قلة هالحيا وهالرزالة .. ابني مش غريب عن لبلاد، هاذي بلده وراجع عليها يقعدله اكمن يوم. على ايش نازلة تستجوبي فيه ع الحامي والبارد.. قطيعة تقطعكم وتقطع اليوم اللي اجيتو فيه ع لبلاد». أما المرة الثالثة، فكانت داخل مسجد قبة الصخرة، عندما صرخت الوالدة فرحاً في مكالمة هاتفية بينهما قال لها فيها، إنه سيصلّي من أجلها ركعتين في المسجد.
لم يكتف الكاتب بإسماعنا صوت والدته داخل القدس، بل أسمعنا أيضاً، صوت فيروز تغني:
لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي… لأجلك يا بهيّة المساكن… يا زهرة المدائن… يا قدس .. يا مدينة الصلاة أصلّي.
ليس هذا فقط، بل راحت أنوفنا تلم روائح التوابل والزعتر من سوق العطارين في القدس خلال تجوال وليد وزوجته وأصدقائه في أسواقها القديمة. 
في «مصائر» المدهون، أربع روايات داخل أربع روايات، مصائرها لا تنفصل عن بعضها بعضا، وأكاد أشبّهها بالرواية الدائرية التي تأخذنا بأحداثها من الوسط إلى النهاية ثم العودة إلى البداية، أسلوب كاتب متجدد لم يتبّع الأساليب التقليدية ولم يأخذ بالسرد الكلاسيكي، ونجح بجدارة في بناء سرده الخاص وأسلوبه الأدبي الـ»مدهوني» الذي يقدم نكهة فلسطينية مغايرة عما سبقه.
رواية جريئة ومغامرة ومختلفة. إنها رواية المأساة الشاملة التي تمـــــيزت بـ «بــــلاغة الحنين»، لتترك لدى قارئها بصـــمات عميقة، كما ترك من سبق ربعي المدهــــون من روائيين كبار، وربما أكثر.
القدس العربي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *