ابنة الـروح


*وفاء خرما

خاص ( ثقافات )
المولودة
لا تبارح الصورةُ خيالي، تلك الصورة التي ارتسمت هلعاً في قلبي، حين تسمّرت عيناي على تلك المساحة، بينما دلّتْ الممرضة جسدها نحو الأسفل، ممسكة بها من قدميها، وهي تلطمها مراراً، وبشدة متزايدة، كي تطلق من جوفها الصرخة الأولى للحياة. لم يلحظْ أعلى ظهرها أحدٌ غيري، فارتساماتُ الفرحة على الوجوه، بعد حرمان من البنوّة طال، وهُتافُ التهليل، وزعيقُ الزغاريد، أشارت كلَّها إلى أنني الوحيدة التي رأيتُها، تلك الحّدبّة، أعلى الكتلة العجينية، للكائن الذي أنزلق لتوّه من رحم أمِّـه!.
الحــزن
سكن الحزن في عيوننا جميعاً بعد أن شاركوني الاكتشاف، وانهمر دموعاً كلّما وقعتْ العيون على عري الوليدة في أثناء استحمام أو إلباس.
وكبرتْ… نمتْ مرتفعةً عالية، مع نمو الجسد الصغير بكل أعضائه، وكأنها واحدة من هذه الأعضاء. حرَصنا دائماً على أن تنام على أحد جنبيها، محاذرين ومشفقين أن نجعل استلقاءها، على ظهرها، فقد كانت تصرُخ باكية بألم كلّما فعلنا. والأسى جرى عميقاً في الأوردة والشرايين وأطلق على الدوام آهاتٍ وزفرات، والابتسامة هجرتْ وجوهنا المكتئبة.
المدرســـة
توجّعتْ من اصطدام حَدَبتها بالخشب القاسي لمقعدها الدراسي الصغير، فحشرنا في حقيبتها وسادة طرية تعاونّا على صنعها، كي تلصق بها ظهرها في استنادها إلى ذلك المقعد … وتلك الحقيبة، حقيبتها، سبق وجعلناها خلافاً لحقائبِ أقرانها المحمولة على الظهر، حقيبةً بعجلات.
ويوماً انفجرت بين ذراعيَّ، وهي تشْهق ببكاء يفطُر القلوب : “جدتي … نادوني: أمُّ الحدَبَة! خطفوا وسادتي، لعبوا بها بالطابة … داسوا عليها، ومرّغوها بالأوساخ… وكانوا يضحكون… حتى المعلمة كانت تضحك …” .
أكاد أجزِم أنّه لو قُيِّض لي تلك اللحظة أن أكون بينهم، أولئك الشياطين، لكسرتُ لهم أضلعاً، وحطمّتُ رؤوساً… بل ودستُ على أجسادهم واحداً واحداً .
احتضنتُ حفيدتي بكل قوة حبّي، ورجفة غضبي، محيطة بكفيَّ استدارة حدَبَتِها، وكأني أضمُّ قلبها النازف.
المعلّمة
لطمتُ وجهها المخضّب بالأصبغة، اقتلعتُ لها حزمة شعرها المستعار، وألحقتُها بخصَلٍ من شعرها الحقيقي… دفعْتُها من صدرها … ركلتُها مرة، وثانية، وثالثة… مرّغتُها بتراب الأرض.
الحِضـن
انشغلوا بمولودهم الثاني، فمنحني انشغالهم بالوافد الجديد حظَّ احتضانها ليلَ نهار، وكلَّ الأيام والأسابيع، والشهور. طويتُها بين أضلعي، والتحمتُ بها في كلِّ الأوقات، والساعات، والدقائق، وفي كلِّ خطوة خطوناها معاً. غمرتُ عينيها الكسيرتين بفيض حنان تدفَّق من عروقي بلا حساب. مسحتُ بيدي على حدّبَتِها، وأنا أحيك، أو أطبخ، وأنا أسقي الحديقة أو أقرأ… تشمّمتُ تلك الكتلة الناتئة كأني أعبُّ من شذى روحها، وفي الليل أقرِّبُ جسدها الصغير مني، أسحبها بقوة، كما لو اني سأصهرُها فيَّ، وأعمد مراراً إلى أن أُديرها لأجعل حدَبَتها تلتصق بصدري، فأشدُّها نحوي بالتوق الحارق لأن أمتص هذه الحدبة.
تملكتني حركة الشدّ هذه، حتى حين استغراقي في النوم (بهذا شكتني إليَّ حفيدتي)، إلى أن كان يوم خيّل إليَّ فيه أن حفرةً بحجم تلك الحدَبَة، قد احتلت صدري، وأن أصابعي التي تغوص في عمقها متفحصة، تؤكد صيرورتها.
وفي فجر أحد الأيام، صحوتُ على حلم، وفرح، وسعادة غامرة. صافحني ضوء باهر سطعت به روحي وتألَّقَتْ مثل جوهرة… إذ رأيتني أرتفع بجزعي عن الفراش، وشيءٌ كالوسادة الطرية يتشبث بظهري، ورأيتها بعينين ضاحكتين، وغمازتين مشتعلتيْن، تنتصب أمامي ، بلا حدَبَة، كعود من الخيزران !.
__________
*قاصة سورية مقيمة في الولايات المتحدة الامريكية . 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *