يوسف بزي
كأنها الحياة المثالية والمتخيلة لكل كاتب. ألبرتو مانغويل ولد في بوينس آيرس، ثم هاجر إلى كندا، ليستقر فيما بعد في الريف الفرنسي. هويته تستحوذ على جنسيات ثلاث، فيما ثقافته تتسع لعوالم الاطلسي ولغاته، وهو في كل الأوقات يسافر بين أرقى العواصم وأجمل المدن، مقدماً المحاضرات ومشاركاً في الندوات والمهرجانات الأدبية ومعارض الكتب. يقضي أوقاته في كتابة المقالات وتأليف الروايات وإصدار الكتب التي تُعنى بموضوعي«القراءة» و»المكتبات». شهرته كمؤلف موسوعي، تتيح له حياة أكاديمية وثقافية واسعة وغنية… ويحدث هذا وفق شروط عيش هانئ، بلا خوف من فاقة أو عوز. إذ من المبهج لأحدنا أن يمتلك منزلاً محاطاً بحديقة بالريف الفرنسي، كما هي حال مانغويل، الذي يمتلك على ما يبدو مكتبة هائلة لا يتوقف عن تزويدها بالكتب الجديدة الصادرة باللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، وبعضها بالألمانية أيضاً.
ما يفعله السيد ألبرتو، هو ممارسة هوايته المفضلة: المطالعة. يجعلها عملاً بدوام كامل. وهو يحول القراءة إلى ممارسة عملية، تماماً كأي عمل إنتاجي يفضي إلى أثر. كأنه في امتهانه القراءة كعمل فعال، يبتدع حرفة جديدة، اختصاص علمي ـ ثقافي، فصفته قارئاً تكاد تسبق صفته مؤلفاً. أن يكرّس فن «الكتابة عن القراءة» و»الكتابة في الكتب»، كأنه يبتكر صنفاً أدبياً خاصاً، هو محاورة تاريخ الكتابة ونبش أركيولوجيا الكتب.
كلنا يعرف أن كل مكتبة تمثل سيرة صاحبها الذاتية. قضى مانغويل عمره في اقتناء الكتب، ليس كما نفعل نحن، أي نختار نسخة من كتاب جيد وحسب، فهو مثلاً لديه في منزله ـ حسب اعترافه ـ «بضعة رفوف في مكتبتي عن أليس وحول شخصيتها، ثمة إصدارات مختلفة وعبر لغات مختلفة، مقالات وقراءات من كل نوع، وكذلك العديد من السير الذاتية للويس كارول، وكذلك نسختي المفضلة من مارتن جاردنر وشروحاته التي يوجه القارئ فيها نحو شخصية أليس، عبر مجازه واستعاراته، والأحجيات التي يقدمها، وتأملاته الفلسفية العميقة، والطُرَف المضحكة.. لقد عاشت معي أليس طيلة حياتي، ومن خلالها شاهدت العديد من البشر في بلاد العجائب مراراً وتكراراً». يحدث هذا مع المؤلفات الأخرى، الكلاسيكية أو البوليسية، أو الكتب الفريدة كـ”منطق الطير” لفريد الدين العطار.
يعترف مانغويل بصعوبة الحصول على كل ما يبتغيه، ففي قرون مضت، كان بإمكان الباحث أو القارئ معرفة كل كتاب يصدر في يومه، ولكن الآن مثل هذه المعرفة هي خارج الحقيقة وخارج الزمن و خارج الواقع، مع هذا الكم الهائل من الكتب المنشورة للاستهلاك: «ثمة مكتبات على الانترنت تقدم ملايين العناوين، وهناك المتاجر الكبرى التي تغطي مساحة مهولة من المجمع التجاري تعرض عناوين لا تحصى من الكتب، وهي بلا شك مفيدة لقارئ واحد يبحث عن كتاب محدد سلفاً، ولكن القارئ الحر الذي يتمهل في طرح رأيه حول كتاب قبل وصوله إلى الصفحة الأخيرة، هذه الأماكن لا تناسبه، فهي مجرد مخازن كبرى، لا تعبر عن روح القارئ المغامر في داخله. القراء الحقيقيون أقل طموحاً ممَّا يتاح، ويحتاجون مساحة أصغر للبحث عن الكلمات التي ستصنع الفارق في معرفتهم”.
يحلم مانغويل أن تكون الجنة هي مكتبة: «يحدوني بصراحة أمل كبير في ذلك، فهي ستكون لكل شخص حسب حماسته في القراءة. كل التفاصيل تهم في هذه المكتبة الكونية الكبرى، إنه دليل ملموس على كرم الرب، وكما قال بورخيس في وصف المكتبة، هي الجنة الأبدية. وبما أنه لا يمكن لقارئين أن يقلبا صفحات الكتاب نفسه في لحظة واحدة في المكتبة ذاتها، فلا شك أن كل مكتبة تحمل في طياتها عدداً غير محدود من المكتبات، لتسمح لكل قارئ بحمل ما يناسبه من رفوفها، وترك ما لا يناسبه».
يقول متذكراً سيرته، حين كان طفلاً، تعلم الحب من خلال قراءته لكتب «ألف ليلة وليلة»، وتعرف على الموت من خلال الكتب البوليسية وكذلك عرف الشرط الإنساني من ستيفنسن، وأسرار الغابة من كيبلنغ، وشغف المغامرات الإستثنائية من جول فيرن. كما لو أنه عرف العالم قبل معايشته وقبل الخوض في غمارها: «التجارب الحقيقية والملموسة أتت في مراحل لاحقة من حياتي، بيد أنها حين جاءت، كان لدي كلماتٍ غير محدودة لوصفها. هكذا، لطالما بدت القراءة مثل رسم الخرائط العلمية».
كتابه الأخير، المترجم إلى العربية، «يوميات القراءة»، هو نتيجة عمل امتد سنة كاملة، قضاها ألبرتو مانغويل في إعادة قراءة بعض كتبه المفضلة، مدوناً ملاحظته عليها بالتداخل الحميم والغرائبي مع تدوينه ليومياته، في نص يقيم «حواراً» بين الكتب، إلى حد أن تتحول كتاباً واحداً، هو في الوقت نفسه أشبه بدفتر يوميات رجل يجمع انطباعات من أسفار، عن أصدقاء، عن أحداث عامة وخاصة. هكذا، يبدو السيد مانغويل، «دون كيخوته» من نوع جديد، في مخطوط غير نهائي.
“يوميات القراءة”، ترجمة أديب الخوري، «دار الساقي» (بيروت) 2015.
المستقبل