ما لا تعرفه غزة


*غصون رحال

( ثقافات )

تعرف غزة انا حمّلناها ما لا طاقة لها به ، أننا أوكلنا اليها دور البطولة المطلقة ، وطلبنا منها ان تنوب عنا في أداء الادوار الصعبة التي عجزت عن أدائها تلك المدن الضالعة في الرياء ، والتمثيل والمكابرة ، رغم إدراكنا المسبق ان قدرتها على التمثيل والرياء ليست على ما يرام. 
تعرف غزة انا خلعنا اوزارنا عن كواهلنا ، وركضنا اليها خفافا لنلقي على كاهلها الغض اخفاقاتنا ، تقاعسنا ، لا مبالاتنا ويأسنا . تعرف أننا رفعنا حفنة من الشعارات الأنيقة ؛ “غزة تقاوم ” ، ” غزة الصمود ” ، غزة العزة ” أبدعنا في تلميعها وتزويقها ، علقناها أوسمة على صدرها الجريح، واكتفينا بما تقوم به من قتال يكفينا شر القتال . 
تعرف غزة انا عذّبناها ، خذلناها ، تخلينا عنها وتركناها تواجه حصارها وحدها . انا خنقناها ، سددنا كل الطرق المؤدية اليها ، منعنا عنها الشمس والمطر ، أفسدنا هواءها ، لوثنا بحرها ، وجلسنا بعد ذلك “ننتش” ما تبقى لها من جذور تحت الركام بدأب مميت .
تعرف غزة ، أنها ليست أكبر المدن ولا اقدر المدن ، ليست أعتى المدن ولا أغنى المدن ، تعرف أن بحرها ليس اجمل البحور ولا شواطئها انظف الشواطئ ، ولا شوارعها اوسع الشوارع ، ولا مطاراتها ، ولا موانئها ولا مصانعها ولا، ولا، ولا … اجمل ما ابدع الخالق .
كما تعرف غزة انها ليست كغيرها من المدن التي بادلتنا خذلان بخذلان ، أهدرت دمنا بين القبائل ، احالت احلامنا كوابيس ، وردت الينا ثوراتنا هزائم .
غير ان ما لا تعرفه غزة هو اننا نحبها لذاتها ، كما هي بكل تناقضاتها ، نحبها لضعفها وجبروتها ، لحنكتها وجنونها ، لخضوعها وسطوتها ، لهدوئها وجموحها ، ونحبها أكثر لانها تتفهم ضعفنا ، تغفر لنا خطايانا في حقها ، وتصبر تصبر علينا حتى نعود الى رشدنا أكثر مما صبر ايوب .
ما لا تعرفه غزة اننا نقدس الدم الذي ينزف من اجساد ابنائها وبناتها ، اطفالها ونسائها ، شبابها وشيبها لأنه دمنا ، يسيل من عروقنا ويحيلنا الى اشباح وهياكل باهتة، واننا نحب وجهها الذي شوهته الطائرات ، نحفظ عن ظهر قلب اسماء وملامح شهدائها ، نعرف عاداتهم اليومية البسيطة ، ونوع الطعام الذي تناولوه في سحور ما قبل الشهادة .
ما لا تعرفه غزة اننا نحسدها لانها ارتضت لنفسها ان تكون مسيحنا وقبلت ان تصلب نفسها لأجل ان تخلصنا من آثامنا ، أنها لم تعترض على ان تكون ” العصبة” التي نشدها حول رؤوسنا كلما فتك بها الوجع ، ولم تخيب الأمل الذي عقدناه عليها لان تعيد الينا ” كمشة ” من كرامة ضيعتها عثرات الزمن . 
ما لا تعرفه غزة اننا نغار منها لانها الاجرأ ، الأصدق والانقى من بين جميع مدننا التي تغرقها زخات من المطر ، وتفزعها مظاهرة غير حاشدة ، ويستنفذ “برنامج ” هزلي صبر حكامها ، ويقض مضجع رجالاتها خبر عن تعديل وزاريّ مرتقب.
ما لا تعرفه غزة اننا بتنا نعبدها لانها وحدها – من دون سائر المدن- بعد قرن وخمسة حروب لم تصطف خانعة في طابور حريم السلطان.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *