*محمود شقير
خاص ( ثقافات )
الرحلة الثانية
1
جئت إلى باريس مرة أخرى بتاريخ 10/9/1997.
وصلت مطار شارل ديغول في الساعة التاسعة من مساء الأربعاء. (في الطائرة، جلستْ إلى جواري امرأتان إسرائيليتان. لم نتبادل أية كلمة إلا في الدقائق الأخيرة من الرحلة. سألتني إحداهما: من أين أنت؟ قلت: من القدس. سألتها: من أين أنتما؟ قالت: من تل أبيب. واصلنا الكلام بشكل عابر بعض الوقت ثم خيم علينا الصمت. رحت أستعيد في ذهني منغصات التفتيش في مطار اللد: أجرت فتيات من جهاز الأمن الإسرائيلي، يرتدين بنطلونات رمادية وقمصاناً بيضاء، تفتيشاً دقيقاً لحقائب الفلسطينيين. كنت أرى ألواناً من أطعمة تخرج من الحقائب وتذهب للفحص الدقيق: جبنة محفوظة في أوعية زجاجية، علب حلوى، أكياس بابونج، أكياس زعتر، ألخ.. تولت تفتيش حقيبتيّ واحدة منهن في العشرين من عمرها تقريباً. نثرت كل شيء، ثم أخذت الحقيبتين إلى مسؤول أمني جالس في مكتبه. عادت تسألني عن قطعة جلد ملصقة على حافة إحدى الحقيبتين من الداخل: هل هي أصلية أم مُضافة إلى الحقيبة؟ (إذا كانت مُضافة فثمة سبب للشك بأن شيئاً ما مخبأ تحتها) قلت: إنها قطعة أصلية. بعد انتظار طويل أعادت إليّ الحقيبتين، قمت بحشر أمتعتي المتناثرة فيهما من جديد. لم أشرح معاناتي في المطار للمرأتين الإسرائيليتين. لم أفكر في ذلك أصلاً)
وجدت شخصاً في انتظاري بالمطار، يتحدث الانجليزية بصعوبة. (فأل حسن إلى حد ما) تحدثنا قليلاً عن أحوال الطقس. أوصلني إلى فندق “سوفرين” الواقع في حي السان ديني. الفندق متوسط، لكنه غاص بالزبائن المنتشرين في الصالة، مثيرين صخباً وضجيجاً. أسرة صحيفة اللومانيتيه التي وجهت لي الدعوة، حجزت لي غرفة لمدة ليلتين في هذا الفندق. الغرفة صغيرة فيها سريران، جهاز تلفاز، طاولة وكرسي. ثمة على الحائط لوحة لمنظر طبيعي مرسوم بالألوان المائية: بيت قديم تتناثر حوله بضع شجرات، يمتد أمامه حقل مزروع بنبات له لون البنفسج. مكثت في الغرفة نصف ساعة، ثم غادرتها. تمشيت في الشوارع المحيطة بالفندق. الطقس غائم جزئياً وثمة برودة خفيفة.
في اليوم التالي، بعد العصر، غادرت الفندق إلى محطة المترو. سألت ثلاث نساء سوداوات عن المحطة، أشارت واحدة منهن إليها، ولم تكن بعيدة.
جلستُ في إحدى عربات المترو، جلست النساء الثلاث على مقربة مني. واحدة منهن تتحدث الانجليزية، عرفت منها أنها تعمل موظفة. السيدة الكبيرة هي أمها التي تعمل في حضانة للأطفال، والأخرى هي أختها التي ما زالت تلميذة في المدرسة. قالت البنت إن أباها منفصل عن أمها. (رأيت أسى على الوجوه، أو ربما توهمتُ ذلك) عند المحطة التاسعة، نزلت الأم وابنتاها بعد أن ودعنني. واصلت رحلتي إلى محطة الشانزليزيه.
تجولت في محيط المحطة. (معي الدليل السياحي الذي اشتريته أثناء الرحلة السابقة) مررت بالمتحف الوطني، بشارع أيزنهاور وشارع روزفلت. دخلت شارعاً يمر من فوق نهر السين، وعلى جانبيه كثير من التماثيل. في نهاية الشارع ثمة بناية عريضة هي بناية الإنفاليدز، ذات القبة الصفراء، وفيها قبر نابليون. عدت ومررت بالقرب من جامعة باريس، حيث تعلو قمتها تماثيل لأفراس جامحة. ذهبت إلى مقهى “برازيرييه” مقابل قصر “دي لا كوفييه”. شربت شاياً وأنا أتأمل كل ما حولي بهدوء. نهضت واتجهت إلى شارع الشانزليزيه، الذي تنهض على أرصفته أشجار باسقة، وثمة مقاهٍ صيفية على الأرصفة مليئة بالرواد. على جانبي الشارع محلات تجارية مليئة بشتى أنواع البضائع. صرّفت 500 دولار إلى فرنكات من أحد محلات الصرافة في الشارع، اشتريت صحيفة الحياة اللندنية من كشك هناك. أشبعت شيئاً من فضولي، ثم عدت إلى المترو. تهت عن الفندق ثم اهتديت إليه.
2
ابتدأ المهرجان بعد وصولي إلى باريس بيومين. ثمة أعداد كبيرة من الناس، ترتاد الأسواق العديدة المقامة في إحدى الغابات في ضواحي باريس. ثمة مسارح للغناء وللفرق الموسيقية، ومطاعم ألخ.. تمشيت حوالي ساعتين وسط حشود من البشر الراغبين في قضاء وقت مريح. لم يتمكن أعضاء الوفد الفلسطيني من مخيم الدهيشة، من القدوم إلى المهرجان بسبب الإغلاق الإسرائيلي المفروض على المخيم. كان ثمة جناح لإحدى بلديات باريس (توأم مخيم الدهيشة). هناك، رأيت الناس يوقعون أسماءهم في سجل، تعبيراً عن التضامن مع الشعب الفلسطيني.
تساقطت زخات من المطر في الظهيرة وفي المساء. الجميع هنا يتمنون أن يظل الطقس غير ماطر، وإلا فسوف تتحول الطرق الترابية والساحات إلى بحر من الطين. (اصطحبت معي معطفي ومظلتي . تبين لي أنني كنت مصيباً في ذلك) ثمة مطربة فرنسية يحتشد من حولها عدد كبير من المستمعين، (غنت بالعربية مقطعاً من أغنية لأم كلثوم) ثمة فرق أخرى من بلدان عديدة تعزف موسيقاها المتنوعة وتغني بلغاتها القومية. التقيت “كلود” المهندس الذي رافقني هو وزوجته “لور” العام الماضي. سألته عنها، قال إنها بخير وهي تعمل أيضاً متطوعة في المهرجان، هذا العام.
في الصباح التالي، لن أذهب إلى المهرجان. سأركب المترو إلى قلب المدينة، أتجه إلى متحف اللوفر. أبقى فيه أربع ساعات ونصف. أتفرج خلالها على أجنحة عديدة في المتحف: تماثيل يونانية وأخرى إيطالية، (منها تمثالان لميخائيل أنجلو) رسوم إيطالية من العصر الوسيط، رسوم لديلاكروا، تيسيانو، ديفيد، كلود مونيه، ورسوم غرافيك.
تلفت انتباهي في المتحف لوحة كبيرة جداً عن قانا، من القرن السادس عشر، ولوحة أخرى من الفترة نفسها عن القدس، تظهر فيها نساء بملابس محتشمة ورجال بعمامات.
3
في الصباح، جاء السائق والمرافقة إلى الفندق، (المرافقة تأتي لأول مرة. قالت إنها بحثت عني في اليومين الماضيين، ولم تعثر عليّ) ذهبنا معاً إلى المهرجان. أخذتني إلى معرض خاص بالشاعر الفرنسي لويس أراغون بمناسبة مرور مائة عام على ولادته. في المعرض، صور شخصية له ولزوجته إلزا، (اضطربت حالته النفسية إلى حد المرض، بعد وفاتها، من شدة حبه لها) وصور أخرى مع كتاب وسياسيين بارزين، ونسخ من كتبه ومخطوطاته ومراسلاته وأشياء أخرى تتعلق بحياته. بعد ذلك، زرنا عدداً من معارض الفن التشكيلي. (أحد هذه المعارض لرسامين فرنسيين من أصول مختلفة: عرب، أفارقة ألخ..) اشتريت عشرة بوسترات صغيرة للوحات فنية. زرنا معرض الكتاب. تعرفت إلى الروائي الجزائري رشيد بوجدرة، كان جالساً في الجناح المخصص لناشر كتبه، يوقع على النسخ التي يشتريها قراؤه. أخذت منه عنوانه ورقم هاتفه. كان معنياً بألا ينكشف مكان إقامته بسبب ما يتعرض له المثقفون الجزائريون من اغتيالات يرتكبها الأصوليون المتطرفون. تناولت أنا والمرافقة طعام الغداء في مطعم تابع لمقاطعة فرنسية في الشمال. تعرفنا إلى أستاذ فلسفة كندي كان معنا هو وزوجته الصحافية على المائدة نفسها، الأستاذ محب للحوار والزوجة صامتة تصغي بانتباه.
ذهبنا إلى الاحتفال الختامي. ألقى أمين عام الحزب، روبيرو إي، كلمة غير مسهبة تحدث فيها عن الوضع الداخلي في فرنسا، (البطالة ألخ..) لم يذكر شيئاً عن فلسطين! قال شيئاً عن المجازر التي تُرتكب في الجزائر. (يوم أمس كان هناك حديث متلفز لياسر عرفات جرى بثه في المهرجان)
عدنا إلى حفل الاستقبال الذي نظمته جريدة اللومانيتيه للضيوف الأجانب. جاء أمين عام الحزب، سلم على الضيوف واحداً واحداً. تبادلت معه بضع كلمات. غادرت المكان وأنا أفكر بأحلامنا المشتركة (التي تعرضت لهزة كبيرة) من أجل حياة أكثر طمأنينة. ودعتني المرافقة وذهبت إلى بيتها. (فرنسية من أصل يهودي، عمرها 44 سنة)
في اليوم التالي، اتجهت إلى متحف “دورسي” الذي كان محطة لسكة الحديد، ثم حولته الحكومة إلى متحف يحتوي على تماثيل ولوحات فنية من عصر النهضة. لفتت انتباهي في المتحف لوحة فنية، أنجزها رسام اسمه “جين ليون جيرومي”، اسم اللوحة: “القدس عام 1867” يظهر فيها سور المدينة من الجهة الشرقية. ثمة أبنية داخل السور، وأشجار على الجبل.
في الحادية عشرة ليلاً هاتفني صالح شقير، (طبيب متخصص، متزوج من امرأة فرنسية.كنت هاتفته ولم أجده في البيت، تركت رقم هاتف الفندق ورقم الغرفة التي أقيم فيها، لدى زوجته) سألني عن البلاد، عن الأقارب، أجبته عن أسئلته. لم أتمكن من زيارته في بيته لضيق الوقت.
أمضيت في باريس أسبوعاً. شعرت بأن أيامي هنا لم تكن عبثاً. غداً أعود إلى الوطن.
______
*روائي وقاص من فلسطين