ركلة حظ


غصون رحال*


خاص ( ثقافات )

على الطرف الغربي للأطلسي، يقبع أحمد، ذو الأربعة عشر ربيعاً، السوداني ببشرته السمراء الداكنة، ونظارته “الإنتيليكشوال” التي يتحلى بها المثقفون والعلماء، يتلمَّس أحلامه الكبيرة بأصابعه الصغيرة ويشكِّلها بين يديه على هيئة “اختراعات” صغيرة عساه يحظى برضى معلم الهندسة في مدرسته بولاية تكساس الأمريكية.
لم تكن سلسلة الأشياء التي كان يسميها “اختراعات” من راديو، وسماعة تعمل بدون أسلاك “بلوتوث” لتنجح في لفت انتباه مدرّس الهندسة، فهي اختراعات بسيطة ومقلَّدة لا تمتلك صفة الأصالة، فقد سبقه إليها مخترعون سابقون.
ذات ساعة إلهام، اهتدى أحمد إلى طريقة صنع الساعة الرقمية، جمع أسلاكه وصفائحه في صندوق وضعه فوق مكتبه مزهوَّاً باختراعه الجديد، لم ينم تلك الليلة من فرط فرحته ودوي ضربات قلبه، وما إن تنفّس الصبح حتى قام مهرولاً إلى مدرسته عارضاً اختراعه على مدرّسه ومثله الأعلى في علوم الهندسة وكله أمل في أن يحظى اختراعه الجديد بإعجاب معلمه. 
لم يكن لعقل أحمد الطازج أن يستوعب الأحداث التي مر بها لاحقاً من اعتقال وتحقيق وطرد من المدرسة، لم يكن له أن يفهم وجه الشبه بين ساعته الرقمية وبين القنبلة التي اتهم بصناعتها، لم يكن بوسعه أن يصدق أن دولة رائدة في مجال العلوم والتكنولوجيا تخلط بين ساعة وقنبلة ولا تستطيع التفريق بين استعمالات كل منهما! 
ردود الأفعال الغبيّة تلك أدخلت هذا الفتى الصغير قنوات البث الإعلامي من أوسع أبوابه، وأفسحت له مواقع التواصل الاجتماعي الفرصة -“هاش تاج” من بعد “هاش تاج” – لحشد الدعم والتضامن الشعبي والدولي بمن فيهم مارك زوكربرج الذي كتب على صفحته في فيسبوك: “ينبغي أن نصفق لأحمد لا أن يتم القبض عليه”. 
العنصرية العمياء أدخلت مخترعنا العنيد وساعته الرقمية إلى البيت الأبيض ضيفاً معززاً مكرماً على أوباما الذي خاطبه بتغريدة على تويتر: “كن هادئاً، أحمد، نريدك أن تحضر ساعتك إلى البيت الأبيض، نريدك وأمثالك أن تحبوا العلوم.. إنها سبب عظمة أمريكا”.

على الطرف الشرقي للأطلسي، يقف أسامة، أو “أسامة الغضب” كما يلقّبه الصّحاب، الكهل السوري بسنواته الاثنتين والخمسين، ببشرته النحاسية ولحيته المشذّبة البيضاء، المدرب في نادي “الفتوة الرياضي” بمدينة دير الزور، يحمل طفله زيد بين ذراعيه. كان قد تخطّى الحدود والمسافات علّه يحظى بسماء لا تلوثها الطائرات، ومسكن لا تكلّله الأنقاض، وتسلّل بين الدول لاجئاً معدماً إلا من جذوة الأمل في مصير بسيط بساطة إنسانيته.
يمضي لياليه في العراء، مع آلاف المهاجرين فوق بقعة لا تتجاوز مساحتها نصف كيلومتر مربع من أراضي المجر، محاطة بالجنود وقوات الشرطة، يحاول الفرار مع الآخرين هرباً من الاعتقال، فيقع على وجهه مسقطاً الولد من بين يديه، لا لشيء إلا لأن امرأة تحمل آلة تصوير قررت أن تعوق جريانه بضع ثوان كي تتمكن من التقاط صورة ثابتة لملامح انكساره، وليتمكن بعدها أفراد الشرطة من التقاطه واقتياده إلى السجن. 
ما كان لعقل أسامة أن يتفهم ركلة امرأة، صحفية، أوروبية لرجل جار عليه الزمن فرماه تحت قدميها، وما كان لقلبه أن يحتمل جبال الألم والخوف التي شقته إلى نصفين.
هذه الحركة العنصرية العمياء فتحت له أبواب الفضائيات على مصراعيها، جعلته نجماً، توجته بطلاً وخلقت له وطناً جديداً إذ تلقفته إسبانيا ومنحته فرصة عمل كمدرب كرة قدم في أحدى مدارسها الرياضية. تلك الركلة الخبيثة ذاتها أودت بمستقل الصحفية المهني وطردت من عملها، حفاظاً على “سمعة” الصحيفة وصورتها أمام خلق الله ليس إلا.

أن تكون العنصرية مرضاً خبيثاً يعمل في الخفاء، ينمو في العتمة وبعيداً عن الأنظار، أمراً ليس بجديد! أن يتصف أصحاب هذا المرض بالعمى، كالذين ختم الله على قلوبهم فلا يرون النور وهم مبصرون، لا خلاف! أما ان يتزاوج الخبث بالغباء، فتلك صيغة مركّبة تحتوي على نقيضين، ضدّين لا يتفقان، فالخبث سلوك يخالطه الذكاء ولا يمكن له أن يتحالف مع الغباء إلا على أمر تشوبه العنصرية. 
حادثتان منفصلتان متقاربتان زمانياً ومتباعدتان مكانياً تجلت فيهما مظاهر العنصرية بخبثها وغبائها، لتصنع حظوظاً ذهبية ما كانت في الحسبان لأناس عاديين أو منكوبين لا يعرفون من الشهرة والأضواء إلا ظلّها.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *