فريق كُرَة الشِّعْر


*خيري منصور


منذ فترة وأنا أحاول العثور على معادل واقعي وميداني لفكرة بدت لي مجردة، وهي أن الشعر في غياب هواجسه الخالدة ونقاده الذين لا يشبهون حصى النهر، كما يقول غراهام هيو، بدأ يتحول إلى لعبة أمام المرايا وإلى رقصة مع الظّل، فبفضل وسائل الاتصال التي قدمت بدائل وهمية لتحقيق الذات في مختلف مجالات الحياة، والمثل العربي القائل «ما حك جلدك مثل ظفرك» تراجع مخليا المكان لما يسميه علماء النفس نظرية الحك المُتبَّادل، وهي مستولدة بالتجربة من عالم الفئران، التي اهتدت بالغريزة إلى هذه المقايَضة.
وتجليات نظرية الحك المتبادل عديدة وليست حكرا على الأدب، إنها سياسية أيضا واجتماعية قدر تعلقها بشبكة العلاقات غير المتكافئة، التي تحتاج كي تستمر إلى صفقات كالتي تتم بين السّراخس والطحالب على سطوح المستنقعات.
ما أعنيه بدءاً بكرة الشّعر هو ذلك الاختراع الطفولي الذي جربناه جميعاً ونحن نسعى إلى محاكاة المباريات الرياضية، فالكرة التي كنا نتقاذفها بأقدام حافية، هي من خرق وجوارب مليئة بالثقوب، ولا يوجد أي شبه بينها وبين كرة القدم الجلدية المحكمة كي لا يتسرب منها الهواء، غير الاستدارة، وبالتالي الوظيفة لكن بعد أن يجري استبدالها.
ولأن كرة القماش والجوارب هي شبه كُرة، فلا بد أن تصاحبها عدة أشباه أيضا، تتأسس على التقمص والمحاكاة، بحيث يطلق عدد من اللاعبين الصغار على أنفسهم اسم فريق مشهور، وبالتالي يطلقون على أنفسهم اسماء اللاعبين من النجوم، كرة الشعر التي تتقاذفها الأصابع وليس الأقدام عبر وسائل التواصل، قد تستطيل أو تصبح شبه منحرف لأنها هلامية ويسهل تشكيلها كالعجينة الرّخوة، واللعبة فيها بلا شبكة أو حكام، لهذا فما يسجل فيها من أهداف قد يكون في مرمى من يسجل هذه الأهداف الوهمية وليس في أي مرمى آخر.
فعلى امتداد تاريخ الشعر منذ الملاحم كانت هناك جدلية خلاقة بين الإبداع ونقده. وساهم النقد في إغناء الإبداع وتصويب بوصلته في العديد من المراحل، لهذا لم يقيّض لكوميديا الأخطاء بالمعنى الشكسبيري أن تكون بلا نهاية، كما هو الحال في العلم الذي يقول أبرز العلماء أنه أيضا تاريخ من الأخطاء التي يؤدي حاصل جمعها إلى صواب محتمل، وللشعر علمه وليس فقهه فقط، مادام قد قطع عدة ألفيات من عمره، بحيث لم يعد ممكناً لأحد أن يكون آدم الشعر، حتى ما يسمى قصيدة النثر ليس سكب حبر على ورقة عذراء، فثمة جماليات تراكمت وأصبحت حمولة معرفية لدى ورثة هذا الإبداع، ولهذا السّبب وهو الاحتراز من القطيعة مع الموروث البشري لجأ حتى السورياليون إلى البحث عن أسلاف ومنهم هيراقليطس، لكن ما أتاحته تكنولوجيا التواصل من حرّية بلغت تخوم الفوضى، يتطلب الآن وقفة لفض الاشتباك بين الشعر وما يقترف باسمه، وكأن الكتابة مهنة مستحدثة في هذا القرن وبلا أسلاف ورواد عبدوا الطّرق الوعرة، ولولاهم لكنا نلثغ بأول حرف من أبجدية الإبداع.
كرة الشعر وفريقها الذي تقمص اللاعبين هي الآن الأكثر تداولاً في ثقافة رقمية تتشرد فيها المفردات من دون سياق أو نسق، ويوشك المشترك الإنساني فيها أن يغيب، وكأنها عودة إلى السوفسطائية التي يكون فيها الفرد مقياس الخطأ والصواب والجمال والقبح، لكن بروتوغوراس لم يستخدم الشعر لتكريس هذه النسبيّة بعكس بروتوغراس المعاصر الذي لم يقرأ لأبي تمام غير عبارة واحدة هي لماذا لا تفهمون ما أقول، رغم أنه في الحقيقة لا يقول شيئا ويختلط عليه الأمر بين هذيان الحمّى والتخييل والاجتراح.
لم يندر ذات شعر عدد النقاد كما هو الآن، وكأن هذه الحرفة جرى تحويلها إلى مجال آخر، وثمة نقاد يتعاملون كما قال غراهام هيو مع الحصى الهاجع في قاع النهر، وليس مع مائه وتياره. وربما كان هذا أحد أسباب الاستنقاع الذي شمل ثقافة برّمتها، فتخلت عن التبشير بجديتها وجدواها لصالح بدائل تشبهها كما تشبه لحية أخرى، رغم أنها قد تكون لقديس أو كلوشار أو لمجنون!
وحين يتحدث الناشرون عن أسباب عزوفهم عن نشر الشعر، نادرا ما يذكرون أسبابا أبعد من التسويق، والحقيقة أن مساحة الشعر هي التي انحسرت وحوصرت في حياتنا قبل أن يتجلى هذا الانحسار والحصار في الكتابة ذاتها.
ففي عصر تخطت فيه الذرائعية كل الحدود، وأصبحت البراغماتية صيغة مشروعة في السياسة والثقافة ومجمل تفاصيل الحياة الاجتماعية، ينعدم النصف الثالث للتاريخ، وهو التراجيديا بكل ما تعنيه من تجاوز وتفوق على ثنائية الربح والخسارة والنافع والضّار، والسؤال المحير هو كيف لإنسان أن يصدق بأنه أصبح إمبراطورا إذا التقطت له صورة في متحف وهو يشهر صولجانا، وكيف له أن يصدق بأن ما يكتبه هو شِعْر لمجرد ترك مسامات جسده تفرز العرق بلا عوائق. إن كرة الجوارب التي أنهت الأصابع صلاحيتها والاسماء المستعارة من اللاعبين لا تصنع في النهاية غير مباراة بين اليد اليمنى واليد اليسرى للشخص ذاته!
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *