اشتباكات الرّسم والكتابة


إسماعيل غزالي


يبدو الهاجس الأوّلي لرواية «كتاب الرسم والخط» لخوسيه ساراماغو، هو القبض بالكتابة على ما لا يُقبض بالرسم. فالفشل الذي يعلنه الرسام «H» في انجاز لوحة للسيد «S»، يحاول أن يجد له معادلاً للظفر والنصر في الكتابة. كتابة نص فيما هو منخرط في رسم لوحة ثانية للسيد «S» دائماً. اللوحة التي لن يراها هذا السيد، ستكون محض تجربة ذاتية أيضاً لترميم خيبة اللوحة الأولى، ما يشبه تداركاً للعار الذي ألحقته إكراهات المهنة في إنجاز بورتريه رئيس شركة «إس بي كيو آر» أو ما يطلق عليه اسم رئيس مجلس الشيوخ الروماني.

إن رسم بورتريهات الوجوه الرسمية التي يحترفها الرسام «H» يفجّر (عبر الهذيان والاعتراف) الطبقات المتوارية خلف الأقنعة. فالموديل عندما يجلس أمام الرسام يشبه المريض في حضرة الطبيب النفسي وضربات الفرشاة على قماش اللوحة ما هي إلا أداة للغوص في لاوعي الموديل واستغوار لذاكرته وتفكيك لشخصيته وتعرية لما يختفي ويرسب ويعتمل في عتمات الداخل.

رسم بالإكراه
احتراف رسم الوجوه الرسمية هو فنّ ميّت، مهنة تضمن للموديل البقاء ولا تضمن له الفن بحسب أفكار الرسام المرعوب من الصحراء التي خلقها في داخله وهنا تعاسته الكامنة في الرضا الذي يحققه للموديل ولا يحققه لنفسه، الشيء الذي يدفع به لرسم لوحة ثانية خفية حتى يتصالح مع قلقه الجمالي والوجودي في آن، بالنظر إلى أن اللوحة الأولى، أنجزها تحت ضغط الإكراه، إكراه القواعد المتبعة لهذا النوع من المهن، إنها لوحة بشعة حسب اعتقاده لأنّها واضحة. بالمقابل عليه أن يبتكر لوحة غامضة في تجربة الرسم الثانية حتى ينجو بنفسه وينزاح بها عن مستنقع الفشل عبر ما يسميه «شهادة نصر شخصي». وإن كان يعي بأنه يحاول السير في الطريق الضال للكتابة فهو مسحور بالاستطرادات اللانهائية للنص الذي يكتبه، عكس اللوحات التي يجدها مغلقة على نفسها ولهذا تصده عازلة نفسها في جلدها. إنه فنان في تصنيف منحدر يعرف مهنته ولكنه يفتقر إلى العبقرية، يحاول كتابة كل شيء في حياة الموديل «S» لكي يفصل بين حقيقته الداخلية والقشرة اللامعة الخارجية، ثم ما يلبث أن يناقض الأمر ويعلن بأن مهنة الرسم تكفيه لتحقيق انتصار بسيط للتصالح مع نفسه. ثمة خوف عام واحتقار متبادل بينه وبين موديله، وما يجمع بينهما أكثر هو تعرفه على سكرتيرته «أولجا» حينما ذهب ليستكشف فضاء المؤسسة التي ستعلق فيها اللوحة، وعندما يستدرجها إلى بيته ستمارس معه الحب أمام صورة سيدها في العمل، كما لو كانت تنتقم منه ومن المؤسسة وسياسة البلد بأكمله.
و«أولجا» غير «أدلينا» التي تجمعه بها علاقة جنسية لا غير. مما يعزز من ضراوة الثنائيات ومفارقاتها اللاذعة، فكأن «أولجا» تتناغم وتجربة اللوحة الثانية الغامضة التي يصفها بالسحابة السوداء المنعزلة عن العالم و«أدلينا» تشبه اللوحة الفاشلة الأولى الواضحة التي يصفها بالجافة. يوازي هذا التأرجح المتوتر بين اللوحتين، انقسام مضاعف بين الرسم والكتابة إذ يتساءل: «من يرسم، يرسم نفسه، لذلك ليس الموديل هو المهم بل الرسام… فالدكتور جاشيه الذي رسمه فان جوخ هو فان جوخ وليس جاشيه»، وقس على ذلك رامبرانت وأعماله، لكن «هل سيكتب عن نفسه من يكتب؟ من يكون تولستوي في الحرب والسلام؟ وماذا يكون ستندال في دير بام؟». لا يروق للرسام أن يرى نفسه مرسوماً في صور الآخرين، وربما يروقه رؤية نفسه مكتوباً في النص الذي ينجزه كبديل لرسم نفسه في أكثر من صورة للآخرين، فهل الكتابة وسيلة للاقتراب من نفسه أكثر من الرسم فعلاً؟

تمارين للكتابة

يوهمنا الرسام أخيراً بالكشف عن اسمه وتاريخ ولادته وعن تفاصيل شخصيته وسيرته الذاتية في المفصل العاشر للرواية وسرعان ما يتضح أنها خدعة نسخ لرواية روبنسون كروزو للكاتب البريطاني دانييل ديفو، بعدئذٍ يقترح خمسة تمارين لكتابة سيرته الذاتية: التمرين الأول للسيرة الذاتية، في شكل حكاية سفر.. عنوانها (التواريخ المستحيلة)، التمرين الثاني للسيرة الذاتية في شكل فصل من كتاب بعنوان «أنا، بينالي في فينيسيا»، التمرين الثالث للسيرة الذاتية في شكل فصل من كتاب بعنوان «مشتريات الكروت البريدية»، التمرين الرابع للسيرة الذاتية في شكل فصل من كتاب بعنوان «قلبا العالم»، التمرين الخامس والأخير للسيرة الذاتية في شكل حكاية رحلة بعنوان «الأضواء والظلال».

التمارين الخمسة هي محض تدوين لرحلات إلى مدن إيطالية (ميلانو، فينيسيا، فيرارا، فلورنسا، روما) يسترجعها عبر تخييل فني يوثق لانطباعاته الجمالية حول معمار الكاتدرائيات والقلاع والمعارض الفنية والمتاحف والشوارع والكنائس والساحات والقصور والجداريات والأبراج والتماثيل… الخ.
ما يشبه دليلاً موجزاً لتاريخ الفن الإيطالي، من عصر النهضة إلى الأزمنة الحديثة، إذ يقف بإسهاب وإمعان عند لوحات ومنحوتات وتماثيل ومتاحف وأسماء رسامين وكتاب وسينمائيين كنيكولو ديلاأركا وفابريزيو كليرتشي وفيتالي دا بولونيا وماركو زوبو وبيروجيا وساندرو بوتشيلي وفيسكونتي… الخ.
هكذا يهب كل ما لديه من فن كرسام لمعرفة الأسباب العميقة التي تدفع المرء للكتابة، فيعترف أنه ما من سيرة ذاتية فيما دبَّجه من يوميات الرحلات تلك، وإن كان كل شيء سيرة، السيرة التي يشبهها بصفيحة رقيقة جداً محشورة في شق باب تجعل المزلاج ينفك تاركة البيت مفتوحاً على مصراعيه، وهي ما يبحث عنها هو نفسه في كل تلك الانشطارات اللغوية والتموجات الهذيانية. هي انشطارات وتموجات نص يصعب الوصول إلى نهايته ويجد نفسه مورطاً في كتابته بنفس العدمية إلى آخر يوم في حياته.

عندما يظن القارئ أن الرسام قد نسي تجربة الحديث عن الموديل الذي كان يرسمه في الشق الأول من الرواية، الشخصية «S» رئيس مجلس الشيوخ الروماني، يتضح في مختتم الرواية بأنه تناساه عمداً ليعود إليه مجدداً عبر حكاية شبيهة، مع تجربة رسمه لسادة «لالا با» الذين رسم لهم لوحة بنفس طريقة رسم جويا لكارلوس الرابع بين عائلته الملكية، فقد نظر جويا وفق اعتقاد الرسام إلى الملامح الباردة لوجوه تلك المجموعة من الفاسدين ولم يجد شيئاً يستحق تحسينه في الرسم غير جعلهم أكثر قبحاً. هكذا يحمل الرسام لوحة سادة «لالابا» في صندوق سيارته كما لو يحمل قنبلة متفجرة، اللوحة التي رسمها باقتناع أخيراً لأنها مخالفة لقواعد الرسم التي أنجز بها الوجوه الرسمية السابقة، وهو السبب في رفض سادة «لالابا» للوحة، يذرع بها شوارع لشبونة دونما وجهة محددة، ثم يدوّن في نصّه أنه متبرئ من كل الذي مارسه طيلة حياته ويعني تماماً مهنته كرسام لكبار البرجوازيين.

هكذا تدق ساعة الصحراء في داخله، الشبيهة بصحراء أو عزلة جويا في منزله المسمى ببيت الأصم. جويا الذي رسم أحداث مايو 1808 الإسبانية، الشيء الذي يعادله بشكل من الأشكال في التجربة البرتغالية، السنوات الست التي شهدها الرسام «H» من الاضطرابات الخطيرة والحرب المدمرة والفوضى وقمع الرقابة وبوليس سالازار السياسي… الخ

في العزلة

رسام الوجوه الرسمية، أو رسام الطبقة البورجوازية «H» سيجد نفسه عاطلاً فجأة، وتتخلى عنه «إدلينا» ويعتريه الشك إن كان صديقه الناشر سيصدر نصه الذي لا يزال منخرطاً في كتابته، خاصة بعد أن تخلت عن الناشر صديقته «ساندرا» التي كانت متحمسة لنصه، وفي غضون عزلته أو اتساع الصحراء التي صنعها بداخله سيصدمه خبر اعتقال صديقه المهندس أنطونيو، بسبب نشاطه السياسي السري، وتطفو على سطح الحكاية أخت أنطونيو المعتقل المدعوة «M»، هذه التي ستلغي باستثنائيتها وجود نساء حياته بمن فيهن «أولجا» و«أدلينا»، وتجمع بينهما علاقة حب، فيعلن على هامش ذلك أوان رسمه لوجهه الشخصي، قرّر أن يرسم أخيراً صورة شخصية له مستفيداً من درس الكتابة الأول (لا أعرف كم سأستغرق في إنهاء هذه الصورة الذاتية؟) هو نفسه السؤال الذي طرحه في مفتتح الرواية عن الزمن الغامض الذي ستستغرقه كتابته للنص. ومع انشغاله في رسم صورته الشخصية، سيسقط النظام بفعل انقلاب عسكري، جاءه الخبر فيما هو نائم مع «M»، التي يعدها بالبحث عن أخيها أنطونيو في الغد، مع انتهاء مرحلة السرية، كما يعدها بأن يمنحها الأوراق التي كان يكتبها، فتسأله إن كانت سرية هي الأخرى وينفي، مؤكداً بأنها أشياء مكتوبة لا غير. الكتابة التي يخلص فيما تعلمه من ممارستها بأنها: «ما هو أساسي يظلّ محفوظاً في ذلك السطر الآخر المقطوع الذي هو الكتابة». (ص 340).

عن المناطق المحذوفة هذه، والبياضات المفزعة التي تفخّخ النص، ترسم الرواية بقوة الإيحاء مدينة لشبونة عبر هلوسة يوميات «H» – التي يدونها كما لو يدمدم في حلم، يسجلها بجزء نصف نائم وجزء نصف مستيقظ – وعبر وجوه موديلاته التي يستنطق ما وراء ملامحها الباردة، وعبر وجهه الشخصي الذي يمهر به منتهى النص كما لو كان خاتم بريد اللحظة التاريخية الكابوسية تلك.

* خوسيه ساراماغو، كتابة الرسم والخط، ترجمة: شيرين عصمت وأحمد عبد اللطيف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011.
الفنان مكتوباً

التأرجح المتوتر بين اللوحتين، يوازيه انقسام مضاعف بين الرسم والكتابة إذ يتساءل: (من يرسم، يرسم نفسه، لذلك ليس الموديل هو المهم بل الرسام… فالدكتور جاشيه الذي رسمه فان غوغ هو فان غوغ وليس جاشيه)، وقس على ذلك رامبرانت وأعماله، لكن (هل سيكتب عن نفسه من يكتب؟ من يكون تولستوي في الحرب والسلام؟ وماذا يكون ستندال في دير بام؟).

لا يروق للرسام أن يرى نفسه مرسوما في صور الآخرين، وربما يروقه رؤية نفسه مكتوبا في النص الذي ينجزه كبديل لرسم نفسه في أكثر من صورة للآخرين. فهل الكتابة وسيلة للاقتراب من نفسه أكثر من الرسم فعلا؟

دليل إلى الفن الإيطالي

التمارين الخمسة التي يقترحها ساراماغو للكتابة هي محض تدوين لرحلات إلى مدن إيطالية (ميلانو، فينيسيا، فيرارا، فلورنسا، روما) يسترجعها عبر تخييل فني يوثق لانطباعاته الجمالية حول معمار الكاتدرائيات والقلاع والمعارض الفنية والمتاحف والشوارع والكنائس والساحات والقصور والجداريات والأبراج والتماثيل…الخ.

ما يشبه دليلا موجزا لتاريخ الفن الإيطالي، من عصر النهضة إلى الأزمنة الحديثة.

الاتحاد

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *