تلك وثبةٌ أخرى


أشرف الجمال*


خاص ( ثقافات )

(1)
لو أن لي صبراً… 
ولكني أحمل ذاكرة قِط ضائع 
كل درب يفضي إلى جبّانة
كل جميزة تسوقني إلى حكمة الشيوخ
أنا الذي خُلقت لأكون طفلا
يلهو عارياً أمام البحر 
يستحث الخُطى في لجَّة الموج 
كلما نادته من وراء الضفاف 
الجنيّات اللائي يدهنَّ أجسادهن بالنبيذ
أو أطير وراءهن 
وهُنّ يرفرفن عرايا 
نحو الأقمار.
(2)
شمعة تنصهر 
ونافذة يتلألأ عليها اللهب
سكين يذبح ثمرة
لا أدري أيهما أنا 
وأيهما أنتِ 
حين التقت عينانا
بعد غياب
في قطارين… يسير أحدهما
عكس اتجاه الآخر.
(3)
على الميناء
تهرول الفتاة لتلحق بالسفينة
يزقزق نهداها
خلف بلوزتها
تزمجر الأمواج في أقصى المحيط..
يُطيّر هواء الساحل خصلتها
تتخبط السفينة بين الصخور..
ترحل السفينة بعيداً
تختبئ العاصفة في قلب الجرّة
لكن الطَرْق على السيخ المتوهج
لا يتوقف
فوق السندان
والفخذ العاري لامرأة تتلوى
تحت عشيق
يبرق في عين الحداد..
البحر كان
آخر شخص يتوقعه الجيران
أن يأتي بالزوجة ميّتةً
والطفل التائه
يوماً للحارة.
(4)
القطرة لا تعني شيئاً
على جذع البلوط
لا تطفئ ظمأ غراب عجوز
فيما كانت طوفاناً
أغرق عائلة النملة..
ابتسامةٌ طوّحتها فتاةٌ
لم تكن بديلاً عن الدَفّة
ولا المدينة الغارقة في المظالم
فيما كانت تمرّداً
جعل الطاغية يهجر مملكته
ويسير كالمجذوب..
في شوارع قلبه
يبيع الحنان
والسِّبَح الخضراء.
(5)
المنشار
يقطع قلب الشجرة..
حَدُّ المطواة
يقسم تفاحةً بين سجينين..
صوتها
يشطر قلب البهلول..
التابوت
يفصل بين حياتين..
التوق
يجمع بين القُبلة
والقِبلة
بين صليل السيف
والعسل الهارب
في صمت الريق.
(6)
حَجَرٌ في نخلة
يسقط بلحاً
تشرق بهجة في قلب الطفلة
ذات الخمسة أعوام..
بعد عشرين عاماً..
حَجَرٌ في قنديل
يطفئ حارة
تُغتصب الفتاة
ذات الخمسة والعشرين.
(7)
لا يسع النَمِرة أن تكون رحيمة
إذا غرست ناباً
في لحم الظبية..
لا يسعها أن تكون قاسيةً
إذا هرول أشبالها
لصيدٍ تجرّه..
لا يسع صغار الظبية
إلا أن تموت
لاختفاء عائلها..
لا يسع روح العاشقة المجروحة
إلا أن تجأر
كنَمِرةٍ سقطت
في قفص الصيد.
(8)
الوطن
والجرّة
وعيون امرأةٍ تخطو
حالمةً نحو الماء
عُمراً مسروقاً يهدر
في نواح يمامة
والصبّار
كليم الصحراء
يرتاب.. بين الصخرة
والطلل الهارب من وجع الأغنية
لا القاتل يوماً
ولا المقتول
يمكنه أن ينسى
كم كان رحيماً قبل نفاذ الخنجر
لو كان تنبأ أحدهما
أن امرأة.. سترى الجثة
في قاع البئر.
(9)
لا زال العنق الحجري
للعبد الأسود
يتضور لعناق السيف
تهوي شجرة كافور مجروحة
إثر فراق المحبوب
لتُقبّل حجراً يرقد كيتيم
تتدحرج رأس في الساحة
لتُقبّل قدم الطاغية
يخبئ فَرَسٌ بين ضلوعه
وجعاً بصهيل يبرق في وحشة ليل
والخمر في قاع القنينة
يحدق في عين المقتول
والحانة وطواط أعمى
يتخبط هلعاً
حين تتشظى على الأرضية
بقايا الكأس
الجسد المتهاوي للسكران
يحتضن الطعنة
والمرأة تهذي والخنجر في يدها
كم كانت تعشق عينيه..
الخائنتين.
(10)
بين الطحلب والصخرة
العاشق والمجداف
سِرٌّ.. لا يعلمه البحر
لا يدركه الرمل المتأمل
سمكاً ميتاً يطفو على الماء
ولا السفن المحتمية بغربتها
من قصف الكروانات
لا تبدو وحيدة ًبين صخور القاع
الساقُ المبتورة للغواص
فالقِرش المفقوء العينين
لا يثنيه الحزن عن التجوال
في شرود الأعماق
بحثاً عن قاتل أنثاه.
(11)
عندما لا تجد الدودة قُوْتَها
كل ثمار الغصون
تتعطن..
عندما يحتضر نِمسٌ في الغابة
كل شموس الكون
لا يمكنها السطوع..
الفيضانات التي تصب
في البحيرة
لا تعيد الحياة لتمساح نافق..
والقنبلة التي ألقيت على المدينة
دمرت كل ما فيها
برعمٌ وحيد
توارى في حديقة محترقة
نجا من الموت
ونحلةٌ وحيدة
كانت مشغولة بمراقبة عطره
هما من أعاد للمدينة
الماء والخضرة.
(12)
لا يملك فصاحة لبلابة
كي يتهجّى الفراشات
لا يملك حكمة القبور
كي يلوذ بصمته
لم يتحدث عن أُم
لم يتحدث عن حبيبة
أو طفلة يتبناها
لكنه تحدث عن الأفيال
الأفيال التي نفقت في الغابات
– رغم الماء والعشب –
وفاحت رائحتها الكريهة
لأنها لم تجد
من ترغب لأجله
في مواصلة الرحلة.
(13)
كل ما هو مقسوم
كل ما يُسلَّم بصحّته
سيراه السهم
كل ما هو مردود
كل ما يُكفَر به
ستراه الفريسة
لكلٍّ أسبابه
في كفره وإيمانه.
(14)
تلك وثبة أخرى
لحَجَرٍ لم يشتهِ أن يغادر
لنورسٍ لا يرغب أن يموت
وبحر لا يقرأ العرّافون كفّيه
إلا ويبكي
معترفاً بامرأة يعشقها..
الأسباب كثيرة
لكن الحيتان لا تذكر علّةً واحدة
حين تموت على الشاطئ..
خارجاً عن حقيقته
يفر اليمام من النوافذ
مارجا من نار..
شوقا إلى فطرته البعيدة
يصير الإبريق فتاة
تروي العطشان..
أما أنا.. الميت الذي لا ظل له
وراء سور لم يجلب حديقة
أرقص بين القبور عاريا
أطوّح الكئوس التي خلا خَمْرُها
وأثِبُ كشِبْلٍ لَعِبَ العشبُ برأسه الصغير
خلف الفراشات..
تلك وثبةٌ أخرى يا صاحبي
لا تعيد للتراب
سيرته الأولى.

* شاعر مصري

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *