ميسلون هادي *
وجد العلماء أن للدماغ البشري منطقةً محددةً تسجل الروائح وتختزنها، مشيرين إلى أن هذه الظاهرة تسمى (بروستيان) نسبة إلى الكاتب الفرنسي مارسيل بروست الذي كتب إحدى رواياته العظيمة، “البحث عن الزمن الضائع”، عن تذكّر الماضي واستعادته من خلال التفاعل مع أشذاء الحياة المفقودة. ويعتقد العلماء أن هذا الأمر يحدث بسبب وجود جزء منفصل من دماغ الإنسان يخزّن الروائح ويعالجها، كما أن الذكريات التي تنشّطها الروائح قد تكون أقوى وأكثر عاطفة وإشراقاً وتفصيلاً من الذكريات المصاحبة للحواس الأخرى. فعندما يشمّ الإنسان رائحة معينة، فإن هذا يجعله يستحضر ذكريات عاطفية حية ونابضة قد ترجع إلى سنوات أو عقود ماضية من الزمن.
وأفضل تجليات تلك القدرة الإنسانية، برأيي، هي عندما يمضي الزمن طويلاً جداً على المشاهدة الأولى لمكان من الأمكنة، فتعجز الذاكرة عن استرجاع تفاصيل ذلك المكان البعيد، ولكن ما أن يرتبط ذلك المكان بعطر صابون معين أو طعام معين أو رائحة حطب مشتعل مثلاً، حتى يحضر المكان في الذاكرة بأقرب وأقوى ما يكون من حضوره الأول.
الحواس الأخرى، كالسمع والبصر، قد تصنعان هذا الارتباط العاطفي بين الإنسان والمكان، وخصوصاً فيما يتعلق بالأصوات القاهرة للزمن كأذان الظهر وأغاني أم كلثوم وزقزقة العصافير وهدير البحر وصوت القطار وجرس المدرسة ونداءات بعض الباعة المتجولين.. هذه كلها ترتبط في أذهاننا بأماكن معينة ومراحل بعينها من العمر، فيوقظ سماعها لدينا الحنين الغامض إلى ذلك المكان أو ربما النفور منه. وهذه الأصوات قد تتأرجح كفتها بين أماكن لا يمكن اصطحابها معنا في الحل والترحال، كهدير البحر أو صفير القطار أو نفير السفن، وأخرى متنقلة أو خفيفة الحمل فيمكنها التنقل معنا، كالترتيلات والأغاني وزقزقات العصافير. أما الروائح فتترجح كفتها على كفة الأصوات في مُصاحبتها الإنسان، إذ هي ترافقه بسهولة من مكان إلى آخر، وفي كل الظروف. فعطور الصوابين مثلاً، يتكرر حضورها في البيوت والفنادق وأماكن الإقامة الأخرى، وروائح التوابل أو الأعشاب أو الحطب المشتعل تتكرر أيضا في أكثر من مكان وفي أغلب البيوت والمطاعم . أما عطر الورد فممكن تشممه في كل الحدائق أو محلات بيع العطور إن لم نقل (محلات بيع المنظفات والمعقمات)، على اعتبار ان الإنسان المدمر للبيئة قد امتص خلاصات رحيق الأرض وحولها إلى سخافات.
وعندما يطوي الزمان البلاد والعباد، وتحتاج الذاكرة إلى من يفتح لها أدراج الماضي وذكرياته الجميلة أو المؤلمة، تقوم الروائح بهذه المهمة على أكمل وجه، سواء كان العطر ذاتاً خالصة كرائحة المطر أو تشكيلة مركبة يتدخل في تكوينها الانسان كروائح الطعام أو خلطات التوابل العطرية. ولكني ألاحظ أن لحظة السرور أكثر ارتباطاً بالروائح من لحظة الألم بالرغم من ان الأخيرة هي الأبقى في الذاكرة . فالأم، مثلاً، حين تسلق أحياناً أنواعاً معينة من الخضار، أو تعد حساءً وقت الظهيرة ، فإن الأولاد يحنون إلى أمكنة حميمة ارتبطوا بها خلال حياتهم،أو يتذكرون أياماً شتوية من طفولتهم قضوها في بيت الجد والجدة، وعندما تشعل الصوبة (المدفأة) النفطية فإنهم قد يتذكرون أيام الحرب في العراق وما بعدها من أيام المحنة عندما كانت الكهرباء تنقطع تماماً، فنتدفأ ونطبخ على المدافئ النفطية ونملأ خزان الفانوس النفطي الصغير لنستضيء به، فيمتلئ الجو برائحة النفط. أما رائحة القهوة فإنها غالباً ما تذكرني ببعض محلات بيع القهوة في عمان.. وهكذا فإن لكل رائحة تعريف بمكان وزمان. وقد قرأت يوماً عن هذا التأثير الساحر للروائح موضوعاً يقول إن دلالي العقارات في أوربا، إذا أرادوا بيع بيت من البيوت بسرعة فإنهم يطلبون من صاحبه وضع الخبز في الفرن وتسخينه عند موعد قدوم المشتري، فإذا ما دخل البيت وتضوّعت رائحة ذلك الخبز الحار الطيبة ارتاحت نفس المشتري للبيت وساعدت على إيقاعه في غرامه على الفور.ومما أحب ان يشاركني فيه القارئ من تجاربي الخاصة في هذا المجال، هو أنني أعالج نفسي أحيانا بالعطور والروائح التي أحبها، فإذا ما شعرت ببوادر برد أو ضيق في التنفس هرعت الى خزانة المطبخ وفتحتها وتشممت بعض قوارير الأعشاب والعطورات الموجودة فيها، كاليانسون وشاي العطرة والنعناع أو الليمون والنومي بصرة. وقد أذهب إلى الحديقة وأرشها الماء لأتشمم بخار العشب ورائحة الطين المحفور فأشعر بالراحة وتطيب نفسي على الفور.أما إذا ما أصابني الاكتئاب قربت قطعة خبز الى النار وحرقتها قليلاً فيتضوع منها عطر شبيه بالرائحة التي تنتشر من التنانير العراقية أثناء شي أقراص الخبز، وهي بالتأكيد رائحة تشفي الجائع والزعلان.. الأمر نفسه يتكرر مع رائحة العجين المختمر التي ترتبط عندي بالأيام التي تسبق يوم العيد أو رائحة الرز المؤدم بالزيت الحار والتي ترتبط عندي بأذان الظهر وموعد الانصراف اليومي من المدرسة .
مما أتذكره أيضاً في هذا المجال أني كنت أتحدث مرةً أمام الأستاذ الكبير الراحل مدني صالح حول (عين قير) رأيتها في مدينة هيت، ووجدت لها رائحة نفاذة غير مستحبة، فلما ذكرت ذلك له قال منفعلاً وهو المولود في تلك المدينة:
– لا ..لا.. يحفظك الرحمن يا ميسلون.. هذه أطيب رائحة شممتها في حياتي.
من مدخل كهذا، يحمي الماضي (الخالد) من الزوال، يحتاج المبدع، وهو الأكثر تفاعلاً مع جوهر الطبيعة، إلى أن تكون علاقته مع الطبيعة سفارة فوق العادة ، وأن يكون سفيراً لها في كتاباته تجعل ذلك العبق يتضوّع وينتشر من النص إلى قارئه ليثير ويحفّز مخيّلة ذلك القارئ ، فتساهم تلك الرائحة في نقل رسالة فورية إلى المتلقّي وتعمل، مع باقي عناصر الإثارة، على إضفاء حياة حقيقية إلى القصة وجعلها ثلاثية الأبعاد (3D) يستطيع القارئ أن يحسّها ويشمّها ويسمعها أيضاً.أما عطر الروح فهو السر الذي إذا ما حافظ عليه الكاتب يكون حارساً أزلياً على الحديقة.
* روائية من العراق
( المدى )