البوعزيزي والكتابة


أمير تاج السر*

عدة سنوات مرت، منذ أن أحرق بائع الخضروات التونسي الشاب، محمد البوعزيزي، نفسه في ساحة بلدية سيدي بوزيد، احتجاجا على قطع رزقه البسيط، لتندلع بعد ذلك ثورة تونسية كبرى، مشحونة بالهياج والغليان وتلاشي الخوف، أطاحت بمنابت الظلم، ثم ثورات عربية في عدة بلدان مقهورة أخرى، بعد ذلك، بما سمي بالربيع العربي، الذي في رأيي، لم يعط تلك البلدان سيئة الحظ حقوقها بعد، ولم يمنح الشعوب ما كانت تحلم به، بل على العكس، ضاعت بلاد كثيرة، كانت تملك شيئا من الهيبة والوقار، والاسم الممنوح لها كدول، حتى وهي محكومة بالقهر والاستبداد.

ما يهمني ليس الحديث عن نتائج سياسية أو اقتصادية، تغيرت سلبا أو إيجابا، بعد ثورات الربيع العربي، وإن كان ثمة أمل في رفاهية قادمة أم لا؟ فالذي يقرأ واقع المنطقة العربية الآن، يحس قطعا بالتوعك، ذلك الهواء المحقون برائحة الدم، تلك الحروب والتناحرات التي تسحق الأوطان ولا تنميها، تلك الهجرات المهولة من بلاد لبلاد، وركوب الأخطار برا وبحرا، للوصول إلى نقاط آمنة، قد لا يصل إليها الفارون أبدا.
من المؤكد أن نمط الكتابة الإبداعية، تغير كثيرا من بعد حادث بوعزيزي وما تلاه من أحداث حتى اليوم، وفي هذا السياق، صدرت كتب شعرية وقصصية وروائية كثيرة في البلدان المعنية بالثورات، وحتى بلدان مستقرة، وعرضت مسرحيات أيضا، تجسد أحداثا وقعت، وأحداثا قد تقع، ويستطيع القارئ الذي يريد أن يتأكد من التوثيق الإبداعي لتلك التغيرات، أن يعثر على ضالته في أي معرض للكتب يصادفه، أو في المكتبات التي ما زالت تعرض الإبداع بعد أن خفت صوت الإبداع.
لكن هل تغير نمط الكتابة، بعد تلك الحراكات كان في صالح الكتابة فعلا؟ وهل كنا بحاجة لربيع إبداعي يواكب الربيع الثوري، لنتجدد قليلا، ونبتعد عن أنماطنا السائدة منذ زمن؟
بالطبع هناك إيجابيات وسلبيات في أي تغير يطرأ على الدنيا، سواء أن مس ذلك الناس مباشرة، مثل الأحوال الاقتصادية والمعيشة، أو مسهم من بعيد مثل التغير الثقافي، ولا ننسى ذلك الجدل الذي نشأ واستمر طويلا بعد أن انكسر عمود الشعر المألوف، على أيدي شعراء محدثين، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لترسخ التجربة بعد ذلك، وتأتي بعدها تجربة أخرى، أكثر خطورة وأشد تحريضا للجدل، هي تجربة قصيدة النثر، التي استمرت رغم السيوف والحراب، ولعنات متذوقي القصيدة المفعلة، لتصبح هي الشعر اليوم. الشاعر الآن هو كاتب قصيدة النثر، وهذه أيضا بدأ صوتها يخفت، وهويتها تنطمس، بعد اعتماد الرواية، بوابة سيدخل منها الناس بموهبة وبغير موهبة، إلى بيت الإبداع.
الشيء الإيجابي في زمن الربيع العربي، هو الكتابة من دون خوف ولا رهبة، ولا عيون زائغة تترقب السجن والنفي، بين لحظة وأخرى، خاصة في الأعمال التي تتحدث عن السياسة. لم يعد مقبولا أن تغطى الكتابة بملاءات من أي نوع أو لون، ولا مقبولا أن نتحدث عن الفقر والجوع، والفساد والاستبداد، بلحاف من الجمل الأدبية المزخرفة، التي توهم المفسدين بأنها مدح لهم. 
ولذلك نجد معظم الروايات الصادرة حديثا، واضحة المعنى منذ بداياتها، كذلك وبمباركة الديمقراطية الحديثة، حتى تابوهات الكتابة الأخرى، مثل الجنس، بات الكثيرون، من أخلص الذين يكسرون أضلاعها ولا يهتمون بأي شيء، سوى ما سمي بحرية التعبير. ورأيي الشخصي، أن حرية التعبير يجب أن تكون متاحة، ولكن للمجتمع نظرته أيضا حين يصبح التعبير الحر لدى أحد ما، تعبيرا قاتلا ومدمرا لدى آخرين. ولأن الكتابة في حد ذاتها، استخراج ما يمكن استخراجه من المجتمع المحيط، وتدوينه أدبيا، من أجل الإمتاع الذهني أو إكساب المعرفة، تصبح إذن بلا معنى متى ما أصبحت مشبوهة وملاحقة، ولا يمكن لكاتبها أن يعرضها حتى في بيته.
السلبيات في الكتابة الجديدية موجودة أيضا، منها اللهاث المحموم للكتابة عن الثورات واستلهام شخصية بو عزيزي، وشخصيات أخرى مشابهة، ثم خروج النصوص بفنيات منخفضة للغاية، وغالبا من أشخاص لم يكونوا يملكون الخلفية المؤهلة للكتابة، ولا كانوا قراء أصلا، ولا من أصدقاء القراءة، وقد ذكرت من قبل وفي بداية اشتعال الكتابة الروائية، بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، أنني أخشى أن يخرج إلينا كل هتاف هتف في ميدان التحرير، في القاهرة، أو جندي ساهم في تحطيم بوابات باب العزيزية، في طرابلس، أو قضى الليل متشردا في برد سوريا، برواية عن الربيع العربي.
هنا أنا لا أمنع الكتابة، كما قد يتصور البعض، فكثير من الذين يتعرضون لمواقف غيرت مصائرهم، في أوروبا أو أمريكا، كالسجن أو النجاة من حادث تفجير مثلا، يكتبون مذكراتهم، فقط يكتبونها بمعاونة محرر مختص، يتولى الصياغة للمادة الخام التي يزوده بها صاحب الفكرة، أو صاحب الأحداث التي ستنشر باسمه، وهو ما نفتقده هنا، فتأتي الكتابة تحت مسمى رواية، تساهم بشكل أو بآخر في تعذيب القراء القليلين المتبقين ليقرأوا.
عموما، وأيضا بالنسبة للربيع العربي، فما زالت نتائجه غير مشجعة لكتابة عمل إبداعي ينحاز لصفه. بعض الثورات أخفقت، بعضها سرقت، بعضها ما زالت نتائجها غائمة.
نشجع تغير أنماط الكتابة مع تغير العالم، فقط لتكن الكتابة إضافة إلى جدتها وحداثتها، تحمل قيمة أعلى.
__________
* كاتب سوداني/القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *