محمد بنيس في رحلة مع كبار المبدعين من المشرق والمغرب



*حسّونة المصباحي




في المرثية التي خصصها في كتابه البديع “مع أصدقاء” للراحل الكبير إدوارد سعيد، الصادر عن دار “توبقال للنشر”، كتب الشاعر والناقد المغربي محمد بنيس يقول “سعادتي هي أنني عشت في زمن الكبار. وإدوارد سعيد أحد هؤلاء الكبار الذين تعلمت منهم كيف أطرح السؤال عن الانتقال من زمني الى زمني، وكيف أبقى مخلصا لما تعلمت منهم، رغم أن كلّ ما يحيط بنا في العالم العربي يقدّم الهبات أو الخيبات حتى تندم على ما تعلمت وما كنت تعلمت”؟.
لعل الفقرة الواردة في مقدمة المقال تلخص المعنى العميق لكل النصوص الواردة في كتابه المذكور، والتي خصصها لشعراء وكتاب ومفكرين من المشرق والمغرب، ارتبط معهم بعلاقات وثيقة في فترات مختلفة من حياته، ومعهم تبادل الأفكار والآراء حول العديد من القضايا الثقافية والسياسية وغيرها، ومنهم تعلم الكثير ليعمّق تجربته في الحياة وفي الكتابة بمختلف أشكالها.
وجميع الذين خصّهم بمراثيه التي تفيض شاعرية عالية، هم فعلا “كبار” بآثارهم وبمواقفهم الجريئة في زمن عربي موسوم بالخيبات والانكسارات والأزمات والكوارث المتتالية. زمن رديء يكاد ينعدم فيه الوفاء، والنزاهة، وتنتفي الصداقة والمحبة فلا نلمس غير الضغائن والأحقاد وقد انتفخت بها القلوب، وبها تعكرت النفوس.
في مقدمة كتاب “مع أصدقاء”، يشير محمد بنيس إلى أن الكتابة مرتبطة بالصداقة وبالمحبة وبالوفاء. لذلك فإن “الشغف بالأصدقاء لازمه منذ الخطوات الأولى خارج البيت” ثم “وهو على طريق القصيدة”. وصحيح أن الكتابة تتمّ في الوحدة والصمت، لكن لا بدّ أن يسبقها “الإنصات، والتعلم”، ولا بد أيضا أن يواكبها” التواضع والتقاسم والكرم”.
وفي كتابه يأخذنا محمد بنيس في رحلة معرفية عبر أصدقائه لنتعرف عليه، وعليهم، ونطلع على فترات مفصلية من حياته، ومن حياتهم، وعلى مناخات ثقافية وفكرية، وعلى كتب قد نكون قراناها أم لم نقرأها.
الخطيبي وأدونيس
في فترة شبابه مثلا تعرف بنيس على شخصيتين سوف يكون لهما تأثير كبير على مسيرته. الأول هو المفكر والكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي. ففي عام 1970 وهو طالب في كلية الآداب بفاس، أبلغه أحد أصدقائه أن صاحب “الذاكرة الموشومة” يرغب في لقائه.
ومن دون أي تردد سارع بالسفر إلى الرباط. وتحت أشجار الجاكرندا التقى بنيس بالخطيبي. وكانت فلسطين مدار حديثهما. فقد كان عبد الكبير الخطيبي يتهيأ لتأليف كتاب عن “الحمّى البيضاء” للوعي الشقيّ الصهيوني. لذا طلب من الشاعر الشاب أن يمده بوثائق فلسطينية. ومنذ ذلك الوقت توطدت العلاقة بينهما لتكون لا عاطفية فقط، بل إبداعية وفكرية شملت الشعر والتصوف والخط والثقافة الشعبية.
يقول محمد بنيس بأنه كان دائما وأبدا حريصا على الاستماع إلى عبد الكبير الخطيبي في كتاباته الفكرية والأدبية، وفي تأملاته، وملاحظاته، ومنه كان يتعلم “هذا الانفتاح الذي لا يخشى، وهذه المغامرة غير المتعجلة”.
وفي فترة الشباب أيضا اكتشف محمد بنيس أدونيس من خلال “كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل”، ثم من خلال “أغاني مهيار الدمشقي”. وعنه -أي عن أدونيس- كتب يقول “إنه الصوت الذي كان عليّ الإنصات إليه، في تجربة شعرية وحياتية أضرمت النار في المسلمات، وفي ما كان معها سائدا من وعي جماليّ، وشعريّ، ومعرفيّ، وسلوكي، حتى لكأنّ الزمن الثقافي برمته أصبح متورطا في التشكل اللانهائيّ لقصيدة أدونيس“. لذلك يقرّ محمد بنيس بأنه “سعيد بأن يعيش في صداقة أدونيس“.
درويش وآخرون
في فترة النضج، تعرف محمد بنيس على الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش. ومنذ اللقاء الأول، ظلت حياته الشعرية والثقافية “متواصلة معه”، ظلت الصداقة بينهما “محافظة على قوتها”. والذي قربه إليه هو “القلق العميق، الجوهري، الذي تتصف به الذوات الإبداعية العليا”.
ومع محمود درويش عاش محمد بنيس “المغامرة الشعرية والأسئلة التي لا تتوقف عن النفاذ إلى الأساسي في قصيدته، وفي القصيدة العربية”، وأبدا لم يشعر في أي لحظة بأن هناك “حجابا يؤثر على حرية البوح وصفاء المناجاة”.
ولما قامت وزارة الداخلية المغربية بمنع مجلة “الثقافة الجديدة” التي كان محمد بنيس يرأس تحريرها، سارع محمود درويش باستضافة العدد الذي تمّ حجزه لينشره في مجلة “الكرمل” مقدما بذلك الحجة على أن المقاومة الحقيقية لا تتم على جبهة واحدة بل على عدة جبهات، وعلى أنه ثابت في موقفه المتمثل في عدم وضع حاجز بينه وبين أسئلة الثقافة أو أوضاع حرية التعبير عربيا وعالميا”.
وفي مرحلة النضج أيضا تعرف محمد بنيس على “كبار” آخرين من أمثال إميل حبيبي، وإدوارد سعيد، وسهيل ادريس، وحسين مروة، وجمال الدين بن الشيخ، وسركون بولص، وهنري ميشونيك ،وجاك دريدا الذي “قرأ على يديه فكرة مختلفة عن هايدغر، وعن باول تسيلان، وفرنسيس باونغ والرسم والعولمة و11 سبتمبر والضيافة والجزائر وفلسطين والجامعة والمقاومة“.
وبنفس الشاعرية العالية كتب محمد بنيس نصوصه التي رثى فيها مبدعين مغاربة غيّبهم الموت مثل محمد زفزاف، ومحمد شكري، وأحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكنوني، و”سيّد الصمت” عبد الله راجع، والذي كتب عنه يقول “كنت عنيدا في مقاومة الموت. ما أبهاك! ما أبهاك! سنتان من هذا السرير لذاك. تتكلم، تضحك كأن كلّ شيء عابر، حتى الموت. وفي عنف الألم تسند مخدة، تسأل عن أحبابك، وعن الشعر، تتابع الأخبار من صحيفة إلى صحيفة. وطلبتك الأوفياء لا تنساهم. تقرأ. تصحّح. تنصح وتشير“.
_______
*المصدر: العرب 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *