محمد بنيس في شعريّة اللون الأزرق وأطيافه



*محمد مظلوم

«هذا الأزرق» الديوان الجديد للشاعر المغربي محمد بنيس (دار توبقال 2015) ذو عنوان مركب من كلمتين: إشارة ولون، والإشارة موجَّهة إلى القريب تحديداً، ما يوحي بأنه في المتناول وفي حدود المتاح، مع أن اللون: «الأزرق» لا يبدو كذلك في ثنايا الكتاب الذي يقع في 296 صفحة من القطع الكبير بينما موضوعه الأساسي كلمة واحدة: الأزرق. وحين أقول: «كلمة» فلأنَّ الأزرق يخرج أحياناً من نعته اللوني ليغدو استعارة رمزية لأشياء كثيرة أخرى، وحالات متعدِّدة، يُخرج بها الهوامش إلى متون في سياحة مفتوحة ومتعددة التخوم في الأماكن والتاريخ والذات، في الحياة واللوحة والطبيعة.

والكتاب، عدا عن ذلك، مزيجٌ من تشابك الفلسفي والتاريخي باليومي، من تأسيسات الفنون وارتكابات الطبيعة. إنَّه أشبه بجغرافيا منداحة للون واحد، وقصائده أقاليم لعوالم مختلفة مما أشرتُ إليه. وهو كتاب في «البحث الشعري» وليس في القصيدة، وبهذا المعنى فإنَّ الديوان يتسم بكونه أقرب إلى فكرة الكتاب الشعري منه إلى القصائد الشعرية المتفرقة، وما القصائد سوى فصول متمِّمة في ذلك الكتاب. هذه الوحدة في الموضوع يقابلها تنوُّع في الشكل الفني للقصائد فيبدو معها الديوان طيفي المستويات، قزحيّ البناء، متعدِّد الأشكال البصرية والمعمارية، إذ نقرأ قصيدة السرد إلى جوار القصيدة ذات الأسطر القصيرة، والقصيدة الموزونة إلى جانب تلك المتحررة من الإيقاع. وثمة تنوُّع في الصياغة البنائية للعبارة بين التدوير والاستطالة، وبين الحذف والإيجاز في جمل تنوس بين الضيق والاتساع، كما نقرأ أحياناً ما يشبه المقالة والشروح النظرية، ونقرأ كذلك التضمين المباشر من التراث والمقولات. وهو كتاب موضوع، أي أنَّه ينشغل بموضوع واحد، وفكرة محدَّدة يبني هيكل الكتاب عليها. ولأنَّ كلاً من الفكرة وبنائها يتسمان بالذهنية، وبالتدخل الفائض للعقل، سيبدو هذا التدخل متعسفاً على النص أحياناً، فينحو بالشعر إلى القصديَّة الموضوعية، أكثر من انشغاله التلقائي بالقصيدة كعالم تنسحب منه الهندسة البيانية المسبقة، لُيتْرَك لنوع من التخلّق الذاتي وأحياناً بمزاج المصادفة التي تمنح القصيدة دهشتها. حتى التقصد لتحصيل اللامعقول وبنائه، سيغدو جزءاً من التطرُّف الذهني، ما لم يكن من المعطيات الطبيعية في لحظة القصيدة ذاتها.
الأزرق والكوارث
وعلى رغم هذا الاختزال الظاهر، في عنوان الديوان الجديد لصاحب «مواسم الشرق» إلا أننا يمكن أن نشير هنا إلى أن الأزرق في ذاته، لونٌ ينطوي على دراما داخلية، فقد كانت العرب تتشاءم من هذا اللون الغريب! وكان ذوو العيون الزرق يُنسبون إلى الشرِّ، لكنه في الوقت نفسه يصبح تعويذة لطرد الشرِّ نفسه، فمن المعروف في الوعي الشعبي الموروث أنَّ الخرزة الزرقاء تعويذة لطرد الحسد والشرور. ووفق مصادر التراث، فإنَّ كلاً من «البسوس» و «زرقاء اليمامة» و «زنوبيا» كانت زرقاء العينين، وارتبطت أسماؤهنَّ بالحروب الداخلية والغزو الخارجي، وهذا ما رسَّخ ارتباط الأزرق بالكوارث والموت في الذاكرة العربية الجمعية. ولعلنا نعرف قصة «زرقاء اليمامة» العرّافة التي جَمَعتْ بين الدلالة على شدَّة الإبصار، وانقلاب تلك الهِبَة إلى لعنة انتهت بها إلى اقتلاع عينيها! من هنا كان للأزرق جانب آخر لدى صاحب «هبة الفراغ» هو: قوَّة البصيرة، بتحويل الذائقة البصرية إلى استبصار داخلي عبر الحواس. ليكتب قصيدته من فسيفساء الباطن والظاهر عن الأزرق: عن ذلك التصادم بين «أزرقهم» و «أزرقه» في جدل متداخل وحوار متجاور لإعادة اكتشاف اللون الصعب، وهنا تبرز علاقة المتصوفة بهذا اللون السماوي وتجلياته على الأرض، فالجبال، وفق ابن عربي، كلَّما ابتعدت أصبحت زرقاء، حتى تبدو مثل نجوم الأرض أو عيونها! فتُشابه النجوم في السماء البعيدة، والأزرق بعد ذلك لون للخصوم والأغيار فهو توصيف إضافي للآخر للبعيد، فبنو الأزرق هم «الروم»! وهذا حافز إضافي على ارتباطه بثقافة تنطوي على ريبة وحذر، لكن بنيس يحاول أن يقرَّبه ويجعله أليفاً، ومن هنا فإن كتابه تواشج بين المثاقفة والتجربة الروحية الداخلية، والتفتيش الاستبصاري عن تجليات اللون في تفاصيل الحياة العامة، والبحث البصري عنه في علامات المدينة لتبرز «فاس» مشهداً مترامي الأطراف لذلك البحث، وهو يتعقَّبه في ملابس العمال خلف آلاتهم، ويراقبه في مشاهد الأنسجة في المدن المغربية، وفي لون الطاولات والصحون.
ومنذ أولى قصائد الديوان يعلن صاحب «ورقة البهاء» أنه إزاء ذاكرة لونية جديدة، وتجلٍٍّ مختلف للون:
«لم أعدْ أذكرُ/ متى جاءَني الأزرق». فبينما يتجلى عابراً في بدلة العامل على دراجته في الشارع، فإنَّه يتجلى في مشهد آخر، طاقة متوثبة في اللهب الذي يتراقص على لسان النار ثم في زرقة الفجر، في هذا الأفق البرزخي بين آخر سواد لليل وأول بياض للنهار. فكأنه يحلّ محلَّ الرمادي ليتمرَّد على اللعبة التقليدية لتدرج الألوان، ثمَّ هو خزين الداخل، في البحر الذي يسكن الذات، والسماء التي تبدو تخوماً منطبقة على الأعماق، فالأزرق هو تلك «الشساعة» بين البحر والسماء! مع أنه «قليلٌ هم المشَّاؤون هنا» لكن الأزرق ليس تلك الصفة النمطية الدائمة للبحر، ولا للسماء، فلا السماء زرقاء دائماً ولا البحر كذلك، وبهذا المعنى فإن الأزرق أحد الأمزجة المتنوعة لكل من السماء والبحر، أنه التحول وليس الثبات. لونٌ قلِقٌ وليس نهائياً، وهو فيسفساء من واقعة تصادم الذات مع ما حولها من معطيات. فيتحول من مُستوطِن داخل الذات إلى وطن تشتبك فيه الحواس في الخارج: «لي هذا الأزرق من داخل نفسي يذهب نحو الشطآن»، ثمَّ: «وطني أو هذا الأزرق/ كيف أميز بينهما؟». هذا ما يتعلق بالجانب المادي البرَّاني، بينما ثمة بعد آخر جوَّاني يعكف على الاستدلال به: «الأزرق لغة تدلُّكَ على ما يتبدَّلُ حَولَك»
مع هذا، فإن استبطان اللون في خميرة الروح سيجعله أكثر تعقيداً، إذ إنه ليس بتلك السهولة التي يمكن معها تفسيره أو تفسير الأشياء في العالم به، فعدا عن ندرة الأزرق في الثقافة العربية كما يقول حيث «العدوّ الأزرق»، نجده وقد استعار رحلة المعري أو بالأحرى اصطحابه في رحلة جديدة من «رسالة الغفران» إنما هذه المرة ليست في الجحيم أو الفردوس، وإنما لاستكشاف الأزرق في الباطن، في الانقطاع عن الخارج ومحاولة الاستغراق في الداخل، ربما لهذا يستعين بالشعراء ذوي اللطخة اللونية الملتبسة! فيقرأ تجليات اللون لدى الشعراء العميان: المعري وبشار بن برد: «هذا الأزرق لم يكن عني غريباً/ مع ذلك أحسست كما لو كنتُ أول مرة أراه».
هوية اخرى
«هذا الأزرق» كتاب احتفاء باللون، ونزوع إلى إعادة اعتبار مُنحسر له في الثقافة العربية. ومحاولة لإخراج اللون من تجريديته وشحنه بهوية أخرى من خلال تظهير مساحته في تأثيث المكان، ليخرج من كونه «لوناً» يستكشف بحاسة واحدة، إلى «شيء» تتداخل في إعادة تشكيله مختلف الحواس: «لا تدري بأيِّ يدٍ تلمسُ الأزرق». أو حين ينطق بلسان فان غوغ: «الأذن ترى!» وفي الاستغراق في ترجمة اللوحات إلى لغة الشعر: فيقرأ «الجوكندا» بلاغياً ويجعل من أقوال مأثورة للفنانين عن الأزرق حاشية جانبية في الكتاب فيستعيد: «آرتو ماتيس» و «فان غوغ» لكن كل شيء يبقى: «أزرق على قدر ما أرى»… الأزرق، إذاً هو الاسم الحركي الذي يطلقه شاعر «ديوان فاس» على كثير من الأشياء حوله، فلا يعود مكتفياً بخريطته القديمة وميراثه الشعوري بكونه صفة لنفسه وحدها لكنها سيغدو صفات متعددة لأسماء أخرى. ومع هذا يبقى السؤال هنا قائماً هنا، على رغم كثافة التأويلات وحمولاتها المتعدّدة التي شحن بها الشاعر لونه الصعب: هل الأزرق هو تلك المسافة الصعبة والمحتدمة بين الشرق والغرب؟ أم هو الصلة الممكنة بين عوالم متباينة من حولنا وفي داخلنا؟
____
*الحياة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *