كأنْ تُدني وجهك من وردة مريضة


*أنتونيو غامونيدا/ ترجمة عن الإسبانية: كاميران حاج محمود


أشعرُ بالبرْد قُربَ الينابيع. إليها صعدتُ حتى أتعبتُ قلبي.
ثمَّة أعشابٌ سوداءُ تُغطّي السفوح، وزنابقُ بنفسجيّةٌ تتخلّلُ الظلال، لكن، ماذا الذي أفعلهُ أنا أمام الهاوية؟
تحت العُقبان الصامتة، الشساعةُ تفتقرُ إلى المعنى.

(..)
أسمعُ، ما بين الروث والبُروق، صرخةَ الراعي.
ما يزال هناك ضوءٌ يلتمعُ فوق جناحَي الباشق، وأنا أهبطُ إلى ندى النيران.
سمعتُ جرسَ الثلج، رأيتُ النقاءَ فطراً، وخلقتُ النسيان.

(..)
أمام الكُروم التي أحرقَها الشتاء، أفكّرُ في الخوفِ وفي الضوء (مادّةً وحيدةً داخل عينيّ)،
أفكّرُ في المطرِ وفي المسافاتِ التي عبَرَها الغضب.

(..)
يلمعُ الجثمان في الدهليز العميق، ثاوياً أمام ضفيرةٍ من قشّ، وخزائنَ قَدَرُها الظلالُ والسفرجل.
فجأةً، تشتعلُ الحظائرُ بالبكاء.
جارةٌ تغسل ثيابَ الجنازة وتَبيضُّ ذراعاها بين الليل والماء.

(..)
روثَ القطعانِ أرتقي، وأستلقي تحت أشجار البلّوط الموسيقية.
بين جسدي والشفق تعبرُ حماماتٌ، تتوقّفُ الريح، وتندى الظلال.
عشبُ الوحدة، حماماتٌ سُودٌ: لقد وصلتُ، أخيراً؛ ليس هذا مكاني، لكني وصلت.

(..)
رأيتُ السَّكينة في عيون النِّعاج التي سِيقتْ إلى حيث السكاكين الضخمة، ورأيتُ الأحصنة التي تجمّدتْ في حزنها؛
بعد ذلك، رأيتُ الكِلسَ، وَضوءَهُ في وجوه العجائز، ورأيتُ شُقوقاً عظيمةً سكنتْ فيها الصرخات.

(..)
أمدّدُ جسدي فوق الأخشاب التي شقّقتها الدموع، وأشمُّ الظلّ وَبُذور الكتّان.
آهٍ، المورفين في قلبي: أنام بعينين مفتوحتين قُبالة أرضٍ بيضاءَ هجرتْها الكلمات.

(..)
جُرِحَ الحارسُ بِيد أمّه؛
وصفَ بيديه شكلَ الحزنِ وداعبَ شَعراً لم يعدْ يحبّه.
كلُّ الدوافعِ كانت تفنى في عينيه.

(..)
كانت في أغنيته حبالٌ بلا أمل: صوتٌ بعيدٌ لنساءٍ عمياوات (أمّهات حافيات في السجن الشفّاف للملح).
كان لأغنيته وقعُ الموت والندى؛ ثم راح يعزفُ على أعواد القصب السوداء: كان مُغنّي الجِراح. ذاكرتُهُ تشتعل في بلدِ الريح، في بياضِ المصحّاتِ المهجورة.

(..)
نفذَ أحدهم إلى الذاكرة البيضاء، إلى هُمود القلب.
ها أنذا أرى ضوءاً تحت الضباب، وحلاوةُ الخطأ تُغمِضُ عينيّ.
كآبةٌ مُسكرة؛ كأنْ تُدني وجهكَ من وردةٍ مريضةٍ، تحارُ بين العطر والموت.

(..)
عشقتُ الخسارات كلّها.
والبلبلُ لا يزال يصدح في الحديقة اللامرئية.

(..)
التفاهمُ بين جسدينا يزداد حزناً في كل مرة،
لكني أعشقُ هذا الأرجوانَ الأسيان.
آهٍ الزهرةُ السوداء في غرف النوم، آهٍ حباتُ الدواء عند الفجر.

(..)
لقد شِختُ داخل عينيكِ؛ كنتِ العُذوبةَ والهلاك، فعشقتُ جسدك في ثماره الليلية.
براءتُكِ مثلُ سكّينٍ أمام وجهي،
لكنّك أثيرةُ قلبي، ومثل عسلٍ قاتم أشعرُ بك بين شفتيَّ وأنا ذاهبٌ إلى الموت.

(..)
وجهي يغلي بين يديّ النحّاتِ الأعمى.
في صفاء الباحات الساكنة، يُفكّر بعذوبةٍ في المنتحرين؛ إنه يَخلقُ الشيخوخة:
ها هما اليومُ والبارحة يومٌ واحدٌ في قلبي.

(..)
مُجرَّحةً بالفجر تفرُّ، ترفُّ فوق المياهِ وبياضُها يتفتَّحُ فيكْ: طيورُ الزقزاق.
تسافرُ من المرئيِّ إلى اللامرئيّ. الآن
لا شتاءَ سوى على الأغصان الساكنة.

(..)
الفجرُ مُوشكٌ على البُزوغ. ما يزال هناك ليلٌ فوق قُروحك.
ها هي آتيةٌ سكاكينُ النهار. لا
تتعرّي في الضوء، أغمِضي عينيك.
ابقَيْ في سريرك المُدمّى.

_________
المصدر: العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *