أحمد فضل شبلول
هل كتابة “ما وراء الكتابة”، تعد شهادة أدبية يقدمها المبدع عن أعماله الإبداعية؟ أم تعد جزءا من السيرة الذاتية التي يمتزج فيها الخاص بالعام، أو تمتزج فيها الكتابة عن لحظة الإبداع النورانية، أو الحديث عنها، بالحديث عن التكوين الأدبي والثقافي والمعرفي والنفسي والجمالي، والإحساس بالأرض والناس والوطن والتاريخ، والمشاكل الفردية والعائلية، والأحداث القومية والعالمية.. الخ؟
وهل كتابة “ما وراء الكتابة”، تعد عملا إبداعيا خالصا، أم عملا تسجيليا محضا؟
ومَن المستفيد من كتابة “ما وراء الكتابة”؟ الكاتب، القارئ، الناقد، الدارس؟
مثل هذه الأسئلة وغيرها، طافت على ذهني، وأنا اقرأ ـ باستمتاع ـ كتاب الروائي المبدع إبراهيم عبد المجيد، صاحب الأعمال الروائية والقصصية المتميزة، التي من أشهرها: بيت الياسمين، البلدة الأخرى، لا أحد ينام في الإسكندرية، طيور العنبر، برج العذراء، الشجرة والعصافير، سفن قديمة، قناديل البحر، وغيرها من الأعمال التي وضعت عبد المجيد في مرتبة عالية بين مبدعي السرد العربي، منذ الربع الأخير من القرن العشرين.
لقد أطلق عبد المجيد على كتابه عنوان “غواية الإسكندرية: ما وراء الكتابة”، ذلك أن معظم إبداعاته تدور حول الإسكندرية: المدينة والتاريخ والبشر والروح والرائحة. فكانت الإسكندرية هي الملهمة لكل أعماله، حتى وهو يكتب عن بلدة أخرى، مثل تبوك السعودية في رواية “البلدة الأخرى”، كانت الإسكندرية هي الحاضرة والماثلة أمام القارئ. فكانت في غيابها عن معظم فصول الرواية، حاضرة أقوى من تبوك التي يدور على أرضها أغلب فصول الرواية.
إن إبراهيم عبد المجيد، وهو يكتب عن “غواية الإسكندرية”، يقدم لنا نصا إبداعيا مغايرا، إنه نص يجمع بين السيرة الذاتية، والشهادة الأدبية، والعمل الروائي، والقصة القصيرة، وتمتزج فيه رائحة أعماله الإبداعية السابقة، بخاصة “لا أحد ينام في الإسكندرية”، و”طيور العنبر”، و”برج العذراء”.
يقول عبد المجيد عن مغامراته الإبداعية في كتابه “غواية الإسكندرية”: “عندما أدركت أنه لا مهرب من المدينة، وأنها بعد أن كانت في دمي صارت دمي، فكرت في سر غوايتها. ورغم أنها راحت تمشي بيدي في أغلب رواياتي، وأناأكتب، فكتبت نفسها على نحو ما تريد، وما أريد، وما نريد معا، إلا أني سألت نفسي أكثر من مرة عن سر هذه الغواية الذي هو أبعد من مجرد الميلاد فيها والحياة بها في الطفولة والصبا والشباب؟”.
وكانت الإجابة، هذا الكتاب الذي بين أيدينا، في محاولة لتفسير النبع الذي ينهل منه الكاتب، وروافد الإبداع لديه: العالمية، والسياسية، والفنية.
لقد خصَّ الكاتب، الرئيس جمال عبد الناصر، بصفحات أثبتت أن ناصر وأيامه يمثلان البنية التحتية، أو البنية النفسية والاجتماعية، لمعظم الأعمال الإبداعية التي كتبها عبد المجيد، وخاصة الفصل الذي عنوانه “ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا” وسبق نشره في القدس اللندنية عام 1992، وفيه يتساءل: كيف يمكن حقا أن أكتب عن عبد الناصر؟ إنها رغبة قديمة تصعد إلى روحي من عام إلى عام، لكني لم أفعلها حتى الآن.
ولكنه فعلها، وشعر بحلاوة الكتابة، وما وراء الكتابة، عن عبد الناصر وأيامه.
كذلك يحدثنا الكاتب عن أبيه الذي كان يعمل بالسكك الحديدية، وكيف كان يصحبه إلى المدن الصحراوية التي تحدث عنها، وأهمها العلمين ومحطة سككها الحديدية، حيث انفتح أمامه الفضاء الدلالي والرمزي لروايته البديعة “لا أحد ينام في الإسكندرية”.
الإسكندرية عند إبراهيم عبد المجيد، ليست مجرد هواء يهب من البحر، وإنما هواء أرسله التاريخ العجيب للمدينة، تاريخ التمرد والنزق والتسامح. والكتابة عن هذه المدينة أفق مفتوح تبحر فيه كل السفن الممكنة، إنها بلورة سحرية تعطيك من كل ناحية عشرات الصور.
ومن ثم فهو يكتب عن فن الكتابة عن الإسكندرية، وهو يرى أن الكتابة عن الإسكندرية تختلف عن الكتابة عن المدن الأخرى، فيحاول أن يسبر أغوار “السكندرية” في الأدب وفي الحياة، عن طريق الذاكرة المتوسطية، والتحرر في الكتابة، والتسامح وتقبل الآخر، والفردانية.
وكما أن الإسكندرية مدينة للمجد، فإنها أيضا مدينة للرثاء والدموع، وهي روح المشاركة أو المداخلة التي قدمها الكاتب في مؤسسة شومان بالأردن عام 2001، وتحدث فيها عن علامات التميز السكندرية، ومنها: ترعة المحمودية التي ليست مجرد ترعة، وإنما هي محفل للأسرار الروحية ومكان مشبع بالموت والجنون والحب والمرح أيضا، ثم تحدث عن السينما في الإسكندرية، وبنات الليل وملاهيه، وغير ذلك من الأماكن التي شكلت الروح السكندرية في أعماله الإبداعية.
ثم تطفو على ذاكرة السطح الإبداعي بحيرة مريوط، ومرايا المدن الصحراوية وكيف سبحت في نسيج رواياته، فأصبحت قطعة حية منه. إنه يذكرنا كيف لعبت العلمين (أرض القتل الإلهية) دورا كبيرا فاصلا في رواياته، وفي الحرب العالمية الثانية، وكيف جرى التاريخ السكندري، منذ أن قرر الإسكندر الأكبر بناءها، وحتى عصر جمال عبد الناصر، مرورا بالفتح العربي لها.
كما تحدث عن مدن صحراوية أخرى تحتضنها الإسكندرية مثل: العامرية، وكينج مريوط، وبرج العرب، وسيدي عبد الرحمن، والضبعة، وفوكه، وصولا إلى مرسى مطروح، بلدة الحب والموت.
إن “غواية الإسكندرية” نشيد حب وعشق جديد، يعزفه لنا إبراهيم عبد المجيد، من خلال روحه العذبة، وإبداعه المتميز، إنه روح الكتابة، وعطرها، وأسرارها، إنه عمل إبداعي خالص، مثلما هو عمل تسجيلي أيضا؟ ومن هنا تأتي سر روعته وجماله وإضافته.
وفي انتظار أن يقدم لنا بنَّائو الإسكندرية من أدبائها الكبار، كتابة ما وراء كتاباتهم عن الإسكندرية، أو أسرار غوايتها لهم، وأذكر على سبيل المثال: إدوار الخراط، محمد جبريل، محمد حافظ رجب، مصطفى نصر، سعيد بكر، محمد الصاوي، وغيرهم.
بوابة الأهرام