الحصار الذّهْنيّ



*برنار نويل/ ترجمة: محمد بنّيس


عندما نعوّض الخلاص في الآخرة بالاستهلاك الفوْري فإن الاقتصاد يتفوق على جميع المجالات الأخرى بما فيها السياسة
حرية التعبير من بين الخصائص الأساسية للنظام الديمقراطي: فهي تعني أن المواطن ليس له أن يكبحَ كلمته المكتوبة أو المنطوقة، وأن بإمكانه بالتالي أن يعلن دون خشية ولا حدود عن نشاطه الداخلي. فالإنسان الحرُّ هو الإنسان الذي لا فرق لديه بين الحميم والعمومي ما دام لا شيءَ يمنعه من أن يطابق ظاهره مع حقيقته. هذه الهوية للتفكير الخاص والتعبير عنه يؤسسان شخصَ المواطن ويمثلان أساسَ القيم الجمهورية منذ الثورة الفرنسية.
فالتعبير بحرية في مجتمع حر، هو أن تخلق حركة الهوية التي تستدعي حركة مماثلة لدى الآخر التي، بسبب التماثل، تخلق الرابطَ الاجتماعي. وبمجرد أن يصبح الكلام والتفكير مُتطابقيْن، فإن ذلك يصدق على الجسد الاجتماعي كما على الجسد الفردي، وينتج تفكيراً جماعياً تعبر عنه كلمة «الثقافة» بطريقة جيدة. هذه الثقافة بطبيعة الحال هي التعبيرُ المباشر عن التفكير، لكن ممارسة لغة مشتركة تُغنيه بمجموع الذاكرة الواعية واللاواعية التي تحملها اللغة بمجرد تركيبها البسيط. فالثقافة هي تفكيرُ الجسد الاجتماعي.
لا يتعلق الأمر هنا بارتباط استعاري: إنه التأكيد على علاقة عضوية حقاً، هي التي فينا أصلُ ومنبعُ الإنساني والعلاقة الإنسانية. وهي أيضاً المصْدرُ الماديّ للمعنى لدى كل حياة وجميع الحيوات. يعلن الجسدُ الاجتماعي عن الثقافة بحركة مشابهة للحركة التي تحْملُ كل واحد منا على التعبير. وطابعُ هذه الثقافة هو أنها بالتالي مشروطة، هي الأخرى، بحريتها في التعبير.
بقدر ما نعُود إلى أبعد فترة سابقة، نجد أنّ هذه الحرية كانت دائماً معرّضةً للرقابة، محاربةً ومشوّهَة: إذ أن الجسد الاجتماعي كان مقطوعاً عن طبيعته المبدعة، مخصياً من جنْسانيته الذهنية، لصالح معبود لم تكن وظيفتُه الإلهية في الحقيقة سوى سياسية.
وعلى النحو ذاته الذي كانت فيه الروحُ منفصلةً عن الجسد، كانت الثقافة مفصولة عن الاجتماعي: لماذا؟
كلُّ ما سبق يشجّعني على نقل هذه السؤال إلى أبعد نقطة ممكنة، لكنني أفعل ذلك لأنه يصرخ دائماً في الراهن.
إذا كان الثقافي والاجتماعي غيرَ منفصليْن بطبيعة الحال، فأيُّ معنى لانفصالهما؟ ومن أين تأتي المهمة المستعجَلة لنقول ذلك هنا حتى نوضح طبيعة الزمن الحاضر في وقت يبدو أن الرقابة وصلتْ في النهاية إلى أن تختفيَ عن عالمنا الأوروبي؟
تحاصر الرقابةُ حرية التعبير، لكنها لا تستطيعُ شيئاً حيالَ حرية التفكير. إنها تقسّم الهوية بين الدخيلة والعلنية مما يبعث على استعمال لغة مزدوجة، تشوّش على العلاقة مع الآخر ومع الرابطة الاجتماعية. وفي المقابل تثير الرقابة، ما دام ضغطها واضحاً للعيان، مقاومة نفْس هؤلاء الذين تقمعُهم وتضاعف قوتهم.
رقابة من الباطن
لقد فهم النظامُ منذ أمد بعيد أن الرقابة على حرية التعبير لم تكن سوى السبيل الوحيد المتبقّي وأنّ عليها، لكي تكون فعالة، أن تحاصر حرية التفكير، أيْ أن تكون في المكان الذي هو، في دخيلة كل واحد منا، رحمُ المعنى. لقد سمح الدّين بأن يفرض علنية الإيمان كمعنًى باطني، وبأن يفصل من ثمَّ الروحَ عن الجسد وينزعَ من الفرد التحكمَ في دخيلته التي أصبحت مُستسلمة للتعالي، مما يبرر كوْنها موضوعَ سلطة القانون الإلهي.
كان الدين يقدّم معنى مشتركاً بالقدر الكافي بين الجميع لكي يسعد الشخصُ بممارسته باعتباره فرداً وباعتباره عضواً في الهيئة الصوفية، التي كانت تصل الرابطَ الاجتماعي لمجموعة المؤمنين بمجموعة الموتى وتصْعد حتى تبلغَ الأمراء والإله. كان هناك إجماع روحي عجيب يوحّد بين جميع الناس الذين يتضامنُون في استسلامهم للإلهي.
والامتياز الذي لا يمكن مقارنته لهذا النظام هو أنه كان يحلُّ الإرادة الداخلية للفرد محلَّ إرادة خارجية قادرة على أن تقدم في الوقت نفسه معنى للحياة وتبريراً للعبودية الإرادية. وكان الوعدُ بالخلاص وبالمساواة في الآخرة يُزيّن الفقر والظلم في الدنيا. وكان الإله قادراً، من قبل، على أن ينقسمَ بين الجميع ويبقى كاملاً.
إن البرجوازية التي وجّهتْ لحسابها الخاص الثورةَ الوحيدة المستمرةَ، والناجحة بالتالي حتى اليوم، لم تكن ربما تشك في أنها، وهي تنشئ سلطة التجارة والصناعة، ستعطلُ شيئاً فشيئاً الصيرورة الدينية التي اختارتها مع ذلك بعد فترة وجيزة لتتكئ عليها. عندما نعوّض الخلاص في الآخرة بالاستهلاك الفوْري، فإن الأمر ينتهي بالاقتصاد إلى أنْ يتفوق على جميع المجالات الأخرى، بما فيها السياسة.
تغوّل الاقتصادي
لا يستطيع النظام الاقتصادي، بدوره، أن يكون إلا مطلقاً وشرساً، لأن قيمَهُ اقتصاديةٌ بحتة. فالسوق لا يعرف قوانين أخرى غير قوانين السوق. ورأس المال مطالَبٌ بأن يتضاعف أو يضمحل، فهو لا يمكنه، بخلاف الإله، أنْ ينقسم ويبقى كاملاً. فالفعالية معيارُه الوحيد، والتنافسُ حركتُه الاجتماعية الوحيدة.
والبرهان على ذلك يوجد في الظاهرة الحالية التي أصبح دمارُها مقبولاً من طرف الجميع إلى الحد الذي أصبح يتحكم فينا جميعاً بصيغة أو أخرى: فأنا أريدُ أن أتكلم عن الاعتقاد، الذي ساد في سنوات وجيزة، بأن الاقتصادَ هو المحرك المطلق لمجتمعنا، اعتقاد يعمل، مثلاً، على قبول البطالة كحتمية، ولكنه يستند في الحقيقة إلى قلبٍ للوسائل والأهداف.
عندما نعتبر الهدفَ هو الاقتصاد، الذي عليه أن يخدُمنا، فهذا معناه أننا نقبل بتحوّل ما هو اجتماعي إلى سلعة، مع ما ينتجُ عن ذلك من محو القيم الإنسانية الأساسية للمساواة، والأخوة، والعدالة بل والحرية.
روايات الماركيز دو ساد وخاصة رواية «120 يوماً من أيام سدوم»، مع الحسابات المجنونة للشهوات، تنذر بوضعية تصبح فيها القيم مُعوَّضَة بالاقتصاد. هذه الروايات حكاية تنبؤية.
«فالرابح»، بطل المجتمع الاقتصادي، يشبه بطلَ ساد. لا شيءَ يوقفه ما دام هو في ذاته المعيارُ والمثال.
وفي ظل الشمولية الاقتصادية التي ستزداد سيطرتُها، يتوقف المعنى عند أن «تربح» وأن تكون غنياً. وعلى العكس من المعنى الديني، الذي كان يمنحُ امتلاءً وكان محطّ رهان الناس، فإن المعنى الاقتصادي عبارة عن فراغ لا يعبئه الاستهلاك إلا من أجل أن يبعث فيه على الفور الشهية ذاتها للاستهلاك.
عندما يكون أساسُ المعنى هو السلعة، فإنه يصبح معرضاً للتلف السريع، لذلك يصبح من اللازم أن يُستهلَك باستمرار، ويُجدَّد. هذا المعنى، الموجودُ دائماً على طريق الظهور الاختفاء، وقتَ اشتداد الأحداث، هو الفخُّ الذي يقع فيه اليوم مجتمعنا: فهو لا يقترح علينا سوى مظاهر حيث نظن أننا ندركُ الواقع.
إن نظام الفخّ هو الاختراع الذي يسمح للسلطة الاقتصادية بأن تحاصر حرية التفكير وهي تمارس عليه، ليس الانبهار بموضوع إيديولوجي، بل التدربَ على حركة لا يمكن مقاومتها، تشدُّ وحداتُها المتتالية كلَّ انتباهه.
كان الاحتلال الديني للتفكير يتلازم مع الرقابة تجنباً لمناقشتها، ويتلازم الاحتلال الاقتصادي للتفكير مع رقابة عامة، تبعاً لكلمة الرقابة على المعنى Sensure* التي نحتُّها لتدل على الحرمان من المعنى.
فالأحداث الكبرى الأخيرة تشير إلى هذا التعارض، وإنْ نحن قارنّا بين أوضاع الشرق والغرب، فسنراه يتضح.
أزمة العالم
كلُّ واحد يعْلم أن عالمنا في أزمة. كان بإمكاننا الاعتقاد، منذ زمن قليل فقط، بأن الأمر يتعلق بنهضة منذ أن أصبح الجمودُ القديم للدولة يتحول إلى انبثاق: بأن السعادة ستكون، مرة أخرى، فكرة جديدة في أروبا.
لم يكن بإمكان هذا الانبثاق أن يكون سوى كاشف رهيب: فهو أظهر أن الاجتماعي، الذي لم يعد له اعتبار في الشرق بإيديولوجية لم تكن تعلن عن الانتساب إليه إلا من أجل قهره، لم يعد موجوداً إلا في شكل جسد يتعرض للتحلّل. وأظهر أن الديمقراطية التعددية والديناميكية للغرب كانت قناع جمود مُغلق على ذاته وغير قادر البتة على تغيير التنافر القديم لأنظمة العلاقة الاجتماعية.
خلال أكثر من نصف قرن، جعلت الديمقراطية الغربية من نفسها النموذجَ الثقافي بامتياز مقابل الديمقراطية الشعبية. وانتصار الديمقراطية الغربية يجبُ أن يكون، تبعاً لذلك، انتصارَ جسد اجتماعي متطور بطريقة متناغمة على جسد معطوب بالرقابة الشمولية. لكنه من الواضح أن انتصار الغرب على الشرق ليس ثقافياً، ولا يطرح حتى مسألة الثقافة، ما دام الغربُ يصرح علانية بطابعه الاقتصادي.
والغريب هو أن نشاهد من خلال هذا الانتصار، لا التأكيدَ على الأسس الثابتة للديمقراطية، بل، على العكس من ذلك تماماً، نشاهدَ انهيارَ بعض القيم التي كنا ظننا، دون أن نثق، مع ذلك، فيها، أنها الضامنة للديمقراطية.
إن تفوق الغرب على الشرق لا يعود أبداً إلى النظام الذي كان يعِدُنا بالمظاهر القديمة: فالتفوق ليس أخلاقياً، ليس الحرية التي، بفضلها، ينتصر في الأخير، وليس حقوق الإنسان: إن تفوق الغرب على الشرق يكمن في اكتشاف وسيلة المناورة الباهظة الثمن لأنها ذكية، لا تؤلم، بارعة، لا مرئية وناجعة.
رغم أن أنظمة الشرق الشمولية وُلدتْ من فكرة ثورية تُلائمها، فقد شعرتْ بالخوف من هذه الفكرة التي كانت تقودها إلى التجديد، إلى المناقشة والاحتجاجات. وبدلاً من أن تتبع التجديد، اختارت أن تجمّد الفكرة وتلجأ إلى الترهيب، إلى القوة وإلى الكذب، وهي جميعها أسلحة سياسية.
أما الديمقراطية الغربية، دون أن نقلل بالمناسبة من القوة، فقد قامت تحديداً باختيار العكس من خلال الموافقة على ما يقودنا اليوم إلى الإجماع.
تمنعُ الشموليةُ المعارضةَ أو تقتل بالرصاص، أما الإجماع فيخفّف على الفور من المعارضة ولا يترك لها تأثيراً. وعندما يقوم الإجماع بهذا الفعل، يجمّد الجدلية بالتأكيد كما تفعل الشمولية، لكن بدون أن يمارس أيَّ ضغط.
للإجماع دورُ احتلال المتخيلِ ومسارِ المعنى: يدخل إلى الأول والثاني وينتشر فيه عن طريق الفعل المُعْدي الذي يسمح له أن يكون مختلطاً بكل ما تقترحه علينا وسائلُ الإعلام وتفرضه تحت الاسم الجميل لكلمة التواصل.
الإجماع، في العمق، إيديولوجية أغلبية المجتمع المُسمّى مجتمعَ الاستهلاك، الذي هو الحالة المؤقتة للديمقراطية الغربية. وظيفته هي ضمان الاندماج الكامل في هذه الديمقراطية عن طريق تزويد الجسد الاجتماعي بوهْم أنه يمثل تفكيره. على هذا النحو يعمل الإجماع على احتلال فضاء الثقافة فيما هو فقط أحد مصائب الفخّ الذي تفرض السلطةُ الاقتصاديةُ بواسطته الرقابةَ على التفكير في ديمقراطية لم يعد الشيء العمومي يتعلق إلا تخيلياً بالمجال السياسي لأن هذا «الشيء»، وهو يتحول إلى دعائي، كفَّ عن أن يكون عمومياً ولا يتبع بعد هذا إلا لسيادة وسائل الإعلام. إن مصادرة الممارسة الذهنية اليوم كما في كل زمن، لصالح اندماج استعبادي تجاه النظام السائد، تظل الأضمنَ للحفاظ على هذا النظام.
لجميع السلطات بطبيعة الحال إرادةُ أن تحافظ على نفسها، وفي هذه النطاق، أصبحت كلها مسكونة بحلم النزعة المطلقة. كانت أنظمة الشرق الشمولية اعتقدت أن الإيديولوجيا، باحتلالها دور الدين، ستنجح على النحو ذاته في احتلال مكان المعنى في رأس مواطنيها. لقد أُفرغت هذه الإيديولوجيا من مضمونها مع الاحتفاظ بشكلها، مما جعل، منذ ذلك الوقت، الغيابَ الذي كان من المفروض أن تخفيه، يصبحُ بالتدريج صارخاً. والمفعول الباعث على الغضب لهذا الغياب سمح في النهاية بتحول للنظام، لكنه يستمر في اللعب على نحو خطير لأنه يستدعي باستمرار مضموناً أصبح مفقوداً.
يغرق الغرب في هذا الفراغ، لكنه لا يأتي ليملأه إلا بسلعته. سنرى إنْ كانت السلعة تكفي لتسكت شهية المضمون في الأجساد الاجتماعية التي تسعى، لحد الآن، إلى العثور على تعبير في ظل الممارسات المتقهقرة للوطنية، للدين أو للعنصرية بكل بساطة. عندما تكون الحاجة إلى المعنى ضرورية، فإنها تعود إلى الصيغ القديمة عن طريق الميْل المتقادم الذي تركته في اللاوعي الجماعي.
تعلم السلطة الاقتصادية أنها ديناميكية محض: نموُّها الدائم هو قيمتها الوحيدة. وترجع قوة إثارتها إلى كون أن حركتها تتماهَى مع حركة الحياة، رغم أنها لا تشبه إلا مظهرها الآلي، الذي ليس سوى انجذاب نحو الموت، أما الحياة فهي بالضبط تحتاج إلى المعنى.
إن الاقتصاد يجمع بين الحيوية والزيادة في السرعة: فهو يولّد على هذا النحو تعجّله إلى نهايته، لكنه لا يريد أن يعرف ذلك. أيْ أن المعنى بالنسبة للاقتصاد غيرُ مُحتمل ما دام أن المعنَى قد لا يعرف كيف يقدم نفسهُ إليه بطريقة أخرى إلا من أجل وضع الاقتصاد موضعَ التساؤل. وعند الحاجة إلى المعنى، فإن حركة الاقتصاد الذاتية هي التي يعْرضها الاقتصاد بصفتها هي المعنى.
لأجل ذلك، فإنه يكفي الاقتصادُ أن يعيد كل شيء إلى الآني بأن يُسند إلى الحدث سرعةً تجعل منه مكاناً للحضور: فاستهلاك الاستعراض يتحول إلى وهْم التأمل وهْم قويٌّ بقدر ما هو لا معنى له.
إن الاختراع العبقري للسلطة الاقتصادية هو أن تغمُرنا بالثقب الذي تحفره فينا وتقيمَ هناك فرجة، تدفعنا لأن نستهلك موتنا الشخصي ونحنُ مغتبطون. ها نحن في الوقت نفسه الفمُ والقبرُ الذي يجري فيه استعراضُ الأشباح التي تكفينا منذ أن خدرت المخدراتُ الإعلامية كلَّ انبثاق اجتماعي، كلَّ تمرد، كلَّ تفكير شخصي.
هكذا استلب العقل
لا شك أن هذا العرْض الوجيزَ المبسّط سيبدو متشائماً على نحو مبالغ فيه إن هو لم ينجح في إظهار أن الحرمان من المعنى لا يؤلم، لا يمكن إدراكه ولا رؤيته. لم نتعوّد إلا على سلطات موضوعة بدقة لدرجة أن إكراهاتها تظل بالنسبة لنا سطحية، بحيث لا نعرف شيئاً عن سلطة هاربة، يصعب تحديدُ موضعها،، تتدخل بلا هوادة في دخيلتنا. هذه السلطة قوية بقوة مجهولة لأن إحكام قبضتها علينا لا نعرف مصدره.
يمكن إرجاع تاريخ التطور الإنساني إلى الطرائق المتوالية التي كان الإنسان يملكها ليُخرج إلى العلن كفاءاته من خلال مضاعفتها. كل شيء يبدأ بنشاط اليد، التي تحرر الفم حتى يقدر على أن يشكّل الكلام ويعبّر عن التفكير. كل شيء يستمر باختراع الأدوات ثم الآلات، التي تحرر بدورها اليد والجسد لأنهما يُخرجان منها كل المؤهلات التقنية. وفي الحاضر، تُخرج الآلاتُ الجديدة إلى العلن مؤهلاتنا الذهنية…
إن الإنسان الفردَ الإنساني صمّم من خلال هذا الصيرورة الطويلة، ثنائية اجتماعية، تمثل بالنسبة له ذهناً خارجياً وجماعياً، هو الذي يبقى على اتصال دائم به عن طريق اللغة.
قلت في البداية إن الثقافة هي تفكير الجسد الاجتماعي، لكن لا تفكير بدون ذاكرة. إن اللغة تحمل هذه الذاكرة وتقدّم في الوقت نفسه مادة التفكير.
ثم طرحت بعد ذلك سؤال: إذا كانت الثقافة بطبيعة الحال لا تنفصل عن الجسد الاجتماعي، فأيُّ معنى للانفصال بينهما؟ لا شك أن مؤسسة السلطة تتطابق بدون شك مع حاجة تصوير علنية التفكير الجماعي في شخص، هو الذي كان في البداية ملكياً وإلاهياً قبل أن يتبع نظاماً ديمقراطياً في مجلس منتخب. ف»الشيء» العمومي هو في آن علنيتُه وتمثله. هذه الخصيصة الثنائية «للشيء الاجتماعي» تسمح بأن يتجسّد فيها الدماغُ الاجتماعي وتسمحُ انطلاقاً منها بأن تركَّب اللغةُ المشتركة.
والمسألة هي أن هذا «الشيء» العمومي لم يكن، على امتداد التاريخ، مسكناً لتعبير المعنى الاجتماعي، بل كان سجينَ ممثل السلطة الذي عمل، وهو يقلب دوره، على أن يقدم نفسه بمثابة الشيء الذي لم يكن سوى صورتها.
تصبح السلطة شخصية أو «ديمقراطية» بإدخال علنية التفكير الجماعي إلى حميميتها حتى تجعله في ملْكيتها.
والتجديد الكبير هو أن هذه الملْكية تتغير أدواتُها منذ ثلاثين سنة مع تعميم الوسائل السمعية البصرية ودخولها إلى كلّ مسكن. إنها المرة الأولى التي أصبحت فيها قناتا تعبير الجسم الإنساني، العين والأذن، أسيرتيْن في آن واحد لآلة تمنعُ أنْ تبتعدَ هذه أو تلك عنها. وهي أيضاً المرة الأولى التي لم يعد تعلّمُ اللغة يمرّ أبداً عن طريق مدرسة الأجداد من خلال الأم، بل عن طريق الصلة مع الرغوة الرقيقة للحاضر.
هذه اللغة التي يتم تعلُّمها في الحاضر لم يعد لها منذ أمد قريب أيُّ ذاكرة، رغم أن التفكير الاجتماعي يتم تعويضُه بالحركة المُميتة للاقتصاد.
هكذا أصبح التمثيل يُسلَّم لنا في البيت جاهزاً لعلنيةٍ يجب على مظهرها أن يقوم بالنسبة لنا مقامَ المتخيل والحميمية.
كل شيء يمكنه بطبيعة الحال، أن يكون مختلفاً، ويمكن للوسائل السمعية البصرية أن تصبح مسرّعةً لتفكير الجسد الاجتماعي، لكن الاختيار العام هو أن يُترك الجسد الاجتماعي للسلطة الاقتصادية الذي لا تمثل الثقافة بالنسبة لها سوى سلعة والسلعة وسيلة لاستعباد الاجتماعي.
إذا طالت مدة هذا الاختيار، وكل شيء يشير إلى أنها ستطول ما دام السياسي يخضع من الآن فصاعداً للاقتصادي، فإن الثقافة أي علنية التفكير الجماعي محكوم عليها بألا تبقى على قيد الحياة إلا كدخيلة للتفكير الجماعي لدى بعض الأفراد، الذين لم يعد لهم سوى أن ينظموا أنفسَهم في مجمُوعات من الزهّاد.
…………………………………………….
* نحت برنار نويل هذا المفهوم بوضع حرف S كبير بدلا من حرف C في بداية كلمة censure التي تعني الرقابة. وهو بذلك جمع بين كلمتي المعنى sens وكلمة الرقابة في كلمة واحدة جديدة Sensure. ونظراً لكون هذا النحت غير ممكن بالعربية، ترجمنا الكلمة بـ «الرقابة على المعنى».

انتصار معطوب!
خلال أكثر من نصف قرن، جعلت الديمقراطية الغربية من نفسها النموذجَ الثقافي بامتياز مقابل الديمقراطية الشعبية. وانتصار الديمقراطية الغربية يجبُ أن يكون، تبعاً لذلك، انتصارَ جسد اجتماعي متطور بطريقة متناغمة على جسد معطوب بالرقابة الشمولية. لكنه من الواضح أن انتصار الغرب على الشرق ليس ثقافياً، ولا يطرح حتى مسألة الثقافة، ما دام الغربُ يصرح علانية بطابعه الاقتصادي.
الشمولية والإجماع وجهان للرقابة
أنظمة الشرق الشمولية اختارت أن تجمّد فكرة الديمقراطية وتلجأ إلى الترهيب والقوة والكذب.. أما الديمقراطية الغربية فاختارت العكس تحديداً من خلال الموافقة على ما يقودنا اليوم إلى الإجماع. وفي الحالين تحقق حصار العقل. تمنعُ الشموليةُ المعارضةَ أو تقتل بالرصاص، أما الإجماع فيخفّف على الفور من المعارضة ولا يترك لها تأثيراً. وعندما يقوم الإجماع بهذا الفعل، يجمّد الجدلية بالتأكيد كما تفعل الشمولية، لكن بدون أن يمارس أيَّ ضغط.
مخدّرات إعلامية
إن الاختراع العبقري للسلطة الاقتصادية هو أن تغمُرنا بالثقب الذي تحفره فينا وتقيمَ هناك فرجة، تدفعنا لأن نستهلك موتنا الشخصي ونحنُ مغتبطون. ها نحن في الوقت نفسه الفمُ والقبرُ الذي يجري فيه استعراضُ الأشباح التي تكفينا منذ أن خدرت المخدراتُ الإعلامية كلَّ انبثاق اجتماعي، كلَّ تمرد، كلَّ تفكير شخصي.
رغوة الحاضر
تصبح السلطة شخصية أو «ديمقراطية» بإدخال علنية التفكير الجماعي إلى حميميتها حتى تجعله في ملْكيتها.
والتجديد الكبير هو أن هذه الملْكية تتغير أدواتُها منذ ثلاثين سنة مع تعميم الوسائل السمعية البصرية ودخولها إلى كلّ مسكن. إنها المرة الأولى التي أصبحت فيها قناتا تعبير الجسم الإنساني، العين والأذن، أسيرتيْن في آن واحد لآلة تمنعُ أنْ تبتعدَ هذه أو تلك عنها. وهي أيضاً المرة الأولى التي لم يعد تعلّمُ اللغة يمرّ أبداً عن طريق مدرسة الأجداد من خلال الأم، بل عن طريق الصلة مع الرغوة الرقيقة للحاضر.
________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *