*عبدالسلام ناس عبد الكريم
لقد دأب الفن العصري على تأكيد هذه الحقيقة التي ترى أن الحياة اليومية التي تبدو لنا تافهة وسطحية هي في الواقع مليئة باللحظات العميقة الصالحة للفن. فالإنسان العادي يتعرض لتجارب وانفعالات ضخمة لا تقل خصوبة عما يتعرض له الملوك والأمراء والأبطال وقواد الحرب. وغيرها من النماذج العليا التي يتبناها الذوق المحافظ، فيحيطها بمقاييس الصرامة وأنواع الرقابة والحظر. يقول العقاد مؤطرا هذا المنحى إن انحطاط الآداب أينما كان ينشأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة تعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة . فتكثر فيها الصنعة ويقل الطبع، ثمّ يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتخرجه من ذلك التطرف الضيق إلى أفق أوسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم (مطالعات في الكتب والحياة ، ص17-18).
ويقودنا هذا الأمر إلى التأكيد على ارتباط الشعر والأدب بالكون والحياة، على الرغم مما يكتنف هذه الثنائية الموصولة بجدل الشكل والمضمون، من أحوال التآلف أو التنازع القائمين بين الحرية والضرورة، والجمال والمنفعة، أي بين قوى مطلقة وقوانين تحكم هذه القوى. وهكذا صرنا نرى في الفن مذهبين: الأول يعتمد مرجعية الذات ويربط صورة الحياة بمعناها، و يتخذ معيار المتعة والجمال دليلا في صياغة المنظور. أما الثاني فيحكم معيار المنفعة ويربط الأدب بموجهات دوغمائية تقيد النظر في الحقائق والأشياء.
وهاتان النظرتان بالرغم من تناقضهما الظاهر إلا أنهما تتكاملان في صياغة الأبعاد بالنسبة لمعظم التجارب الشعرية. وقد تتبادلان الأثر بينهما وفقا لما تمليه الضرورات وتقتضيه مجريات التاريخ وتحولات الواقع. وفي كل الأحوال يظل الشاعر دائم البحث عن مسالك جديدة تقربه من حقيقته الشعرية وتكفل له قدرا من الحرية والامتداد، وعن ملاذ طيب يقيه شرور الحياة ويهبه الطمأنينة والبهجة والانتعاش الروحي الأصيل. ولذاك تراه جسورا معاندا لأجل تحطيم الحدود الصلبة التي تضعها في الطريق أعراف التقليد ومؤسسة الاستبداد، الداعية إلى تحكيم النمط الوحيد في التفكير والإحساس والسلوك وعدم الانصياع وراء مقومات الاختلاف والتعدد. إن قوة الحدس والقدرة على الاختراق لدى الشاعر الطليعي لكفيلة بدفعه نحو مضاعفة التجريب الشّعري عبر إعادة شحن اللغة واختراق أعرافها الجامدة، واستبدال منطق المنمطات الجاهزة، بمنطق السير والحركة ودينامية التجديد. ومن هذه الزاوية ترى الشاعر الموهوب يتميز عن غيره بالقدرة على محاورة الجديد ومساءلة المألوف، وقول ما لا يستسيغه عامة الناس مما هو جار وفق مرجعية الذوق المهيمن ومنطق العادات السائدة. ومن ثم كانت محن الشّعراء وهمومهم لا حصر لها على امتداد العهود والأزمنة، جرّاء تخطيهم لتلك الخطوط. فالشاعر الحق هو من لا يرهب العقبات التي تشلّ طاقة الإبداع أوتقلص من مساحة التعبير. لذا فهو أكثر الناس تعرضا للعنت ومواجهة الخيبات، وأقدرهم مع كل ذلك على تفهم الأحوال والتحكم في المصائر والأهوال وتجاوز أشكال الغبن والإساءة . لأنه يعلم في قرارة النفس مدى اختلافه عن المجموع، وبأنه معنيّ باستباق الصفوف وطرق المواقع والسبل واستشراف الجوهر الجميل. حيث يغدو بديهيا أن يتجاوب خرق الألفة في طاقة الإبداع، مع تحقق الانزياح في لغة الشعر، فتستقيم من جراء ذلك كله أركان النموذج الشعري المدهش الذي تستخلص مفرداته من فيض الحياة، وتمتد فروعه عبر الفنون، وترتوي من معينه ينابيع الجمال، وتتخضب منه الفلسفات والقيم ومفاهيم الخلق والإبداع.
ولكن، حينما تنحطّ القيم في مجتمع ما يكون الشعر أول الضحايا التي يطاولها الدهر ويحاول واقع الإقصاء والتهميش أن ينال منها. وعندما تتناسل الحواجز والعقبات في طريق الشعر، يجد ذاته عاجزا عن استكمال المسار من خلال عتاده الرؤيوي المحفوظ. وإذ ذاك تتولد الحاجة إلى دعم الشعر بأشكال من الصنعة المتعالية المشمولة بحس التحرر والتمرد على المألوف. وقد يفيد الأمر في حال و قد يخيب في أحوال أخرى غيرها . يفيد في حال ما إذا وجهت هذه الأشكال توجيها يلائم وظيفة التعبير الشعري التي تصبغ الأشياء والموضوعات بصبغة النفس التي تراها، وتمثلها جامعة بين كمال الطبيعة وكمال الحياة على رأي مارتن هايدغر. (. ,p17 , De l?origine de l??uvre d?art Heidegger). وقد يخيب الأمر إذا ما نالته المغالاة وشابه التكلف والابتذال والسقوط في متاه العطالة والفراغ. فلا يبقى حينئذ من وسيلة سوى الأمل في عودة التدفق الفعلي لتلك العلاقة التي تربط الفن بالحياة …
________
*(العلم) المغربية