عبد العزيز جاسم *
في ظل التحديات والمتغيرات الكوكبية التي تعصف بالعالم اليوم، يبدو التفكير في وضع الثقافة العربية التي أسالت أنهاراً من الحبر حولها، أشبه بالتفكير في مشهد سفينة كبيرة توشك على الغرق، أو ربما غرقت، وها نحن في (ملفنا) هذا، نستعيد ذكرى ذلك المشهد المأساوي المريع الآن. فهذه الثقافة ذات الامتداد الحضاري الكبير، تبدو متشظّية ومترهلة وعاجزة ومريضة، بل ما زالت تمشي وتتمخطر كالسلحفاة العرجاء، في عصر الانفجار المعرفي والعلمي والتكنولوجي المتسارع واللاهث نحو المستقبل. إنها ثقافة متأخرة، مقيدة الأطراف، مأسورة، وليست على ما يرام، هذا على الرغم من بعض الإضاءات العربية اللامعة والنادرة هنا وهناك؛ بل يمكن القول: إنها تعيش في أحلك فتراتها، بعدما ابتليت «بعقلية الحصار»، وبجميع الأمراض والأورام القاتلة والمعدية، والتي تُوجت بهمجية الإرهاب الأصولي المسلَّح وبربريته الوحشية مؤخراً. فما الذي تحتاج إليه هذه الثقافة المعطوبة إذاً، كي تستيقظ وتنهض وتكتب لها الحياة من جديد؟
«إذا تآكل الإيمان الثقافي، فستفقد الحياة كل معنى لها».(آدم كوبر)
(1)
في البدء، علينا التوكيد، ولا بأس إن استعرنا كلام جيرمي ريفكين، أن «الثقافات تولد من احترام مخلص وحبّ متفانٍ لمنابع الحياة التي تؤلف العالم الطبيعي. كما أن العديد من تعابيرنا الثقافية المعاصرة ترجع بانتسابها إلى أول ارتباط ثقافي لنا مع الأرض ذاتها. أما الممارسات والمؤسسات الثقافية، فهي بغالبيتها مثبتةً للحياة» (1).
أي بمعنىً توضيحي آخر، هو أن القيمة الجوهرية والعالية للثقافة، تتمثل في توكيدها للحياة في عقول وقلوب وأرواح الناس، وأنها بهذا الفعل النبيل تربطنا بقوى الحياة الأعظم، التي نحن جزء منها. أي أن المهمة الأسمى للثقافة، تكمن في ابتكارها للحياة والحفاظ والإصرار على مكوناتها الطبيعية، وعلى إنتاجها جمالياً وفكرياً وإبداعياً وإنسانياً. أما المؤسسات الثقافية، فينبغي عليها أن لا تشذ عن هذا المنحى النبيل الإبداعي والإنساني للثقافة، وأن لا تتحول إلى كنتوناتٍ بوقية أو حزبية أو طائفية أو مذهبية أو رجعية، ضيقة الرؤية ومعدومة البصيرة، تسجن في كنفها هذه الحياة الثقافية الغنية التي هي حياتنا وهويتنا، وتمنع تطورها وتفتحها وتفرض عليها الجمود والتخلف والبتر والتسطيح.
الثقافة وبهذا المعنى إذاً، هي الحياة في تطورها وتغيرها وتجددها وانفتاحها على الكون بأسره، وقد تحولت بهذا إلى أنشودة للإيمان بإنسانية الإنسان ومعارفه وتجاربه وتاريخه، في حلِّه وترحاله، وفي علاقته بالوجود والكون والطبيعة والكائنات الأخرى، من المهد إلى اللَّحد.
هذا الفهم الحضاري المنفتح والمتقدم للثقافة، كما أتصوره، يعني أن الثقافة، أي ثقافة كانت، تصاب بالجفاف والانكفاء والتراجع والتشويه، عندما تتعرض للاستبداد والقمع ويتم نبذها وتهميشها ومحاربة منتجيها ومثقفيها أو اغتيالهم، كما ظهر ذلك جلياً في جميع الأنظمة الاستبدادية عبر العصور. وهي تفقد روحانيتها وشاعريتها وطاقاتها الكامنة وقيمها التشاركية والجوهرية، التي تشكل عماد هوية المجتمع نفسه، عندما تُختزل إلى مجرد أورغانون (أداة) أو سلعة تجارية نفعية وكمية منذورة للاستهلاك السطحي والآني فقط (ثقافة السندويتشات)، كما هو عليه الوضع الآن في عصرنا العولمي هذا. كما أنها تسقط وتنهار وتختنق وتموت، عندما تنغلق على نفسها وتصبح مرتعاً لكل فكر إحيائي ماضوي متحجر ومتطرف ومتعصب، كما يبدو واضحاً الآن ومنذ قرون، في خطابات الفكر الدجماطيقي (اليقيني الجامد) والأصولي والتكفيري والإرهابي معاً.
(2)والحال، ووفق ما تقدم، فإن أس إشكالية الثقافة العربية وتشظِّياتها كما تتمظهر حالياً، تكمن في عقلية الحصار التي تهيمن وتتسلط عليها، والتي راكمها ويراكمها بالأخص، الإرث الاستبدادي السلطوي، والأصولي العربي – الإسلامي، منذ محنة ابن رشد وحتّى اليوم. فإذا كانت دول الاستبداد العربي، والتي شهدنا سقوط أنظمة بعضها في السنوات القليلة الماضية، قد فشلت فشلاً ذريعاً في إنجاز تنميتها المزعومة، وخاصة فيما يتعلق بالحداثة السياسية والعدالة وتحديث المجتمع واحترام حقوق الإنسان وغيرها من الحقوق والواجبات الأخرى، والتي مارست على شعوبها أبشع وأقذر أشكال الاستبداد التوليتاري وأكثرها قسوة وإذلالاً للكرامة البشرية، وحوَّلت بالتالي تلك الأوطان إلى ساحات حرب وسجون ومعتقلات كبيرة ومفتوحة على كل احتمال.
فإن ما فعله ويفعله في المقابل، بعض (وأشدِّد على كلمة بعض) مشايخ الدّين العرب، السلفيون منهم والأصوليون معاً، في الماضي كما في الحاضر اليوم، من عدائهم البغيض للعلم والعلوم ولكل ما هو تنويري وعقلاني وحداثي، ومن تكفيرهم واضطهادهم ورفع الدعوات على الكتّاب والمفكرين والمثقفين والفنانين، ومن دعواتهم الظلامية في نشر بذور الفكر الأحادي الجامد والحقود والمتخلف عن سنن التطور المعرفي والإنساني والحضاري، ومن إعلائهم وتمجيدهم لحركات العنف وارتكاب الجرائم والمجازر في قتل الأبرياء باسم الدّين (بخاصة من ينتمون منهم للحركات الأصولية الإرهابية، والتي تمثل «داعش» ذروتها الكبرى)، ومن معاداتهم الصارخة لكل ما هو آخر حضارياً وثقافياً، ومن تدميرهم الساعي إلى تقويض «تاريخ الإسلام المتعدد الصوت، المُسائل، الإشكالي، المتعدد الإجابة»، كما يسمِّيه المرحوم عبد الوهاب المؤدب، والمنفتح على قيم التسامح والتنوع واحترام العقل والعلم والتفكير، كما احترام الآخر مهما كانت مِلّته أو ديانته. أقول: إن هؤلاء المشايخ ومن يحذو حذوهم، قد دمروا الرصيد الحضاري للثقافة العربية والإسلامية، وأعادوها ربّما إلى نقطة الصفر.
(3)النقطة الأهم التي أودّ الإشارة إليها، التي تطرقت إليها في كتابات سابقة وها أنا أستعيدها هنا، هي أن من يودّ التطرق للدّين اليوم، لا يكفيه أبداً أن يكون وثوقياً في إيمانه أو حافظاً أو متشدِّداً، حتى يقوم بالإفتاء في مسائل الدين على الإطلاق. لأنها ليست مجالاً للهذيانات والتخمينات والمزاجيات، ولا للّعب اللفظي والبلاغي ولا للتفسيرات السطحية أيضاً؛ بل عليه أولاً وأخيراً أن يكون محصناً بتلك العدة الجهازية الأساسية التي تميز الفلاسفة والعلماء والمفكرين عن الجهلة والأدعياء، التي تمثل المعرفة والإدراك والإرادة والفضيلة، وتجمع في بوتقتها التفكير العلمي والمنطق الفلسفي والمعرفة الواسعة المستنيرة والمرتبطة بـ«التماس الثقافي» بين الحضارات والديانات. كما أن الدِّين، من جانب آخر، قد أصبح علماً قائماً بذاته، يتداخل مع تاريخ الأديان ومورفولوجيا الأديان وفينومينولوجيا الأديان والظواهر الدينية عموماً، التي هي من القطاعات الدراسية المتطورة والشاسعة اليوم في الغرب، بحيث يصعب حصرها والإلمام بها كلها. أضف، إلى إن الدين نفسه، لم يعد ينظر إليه بوصفه ظاهرة دينية خالصة، وإنما هو بحسب ميرتشيا إلياده، «… ظاهرة اجتماعية، واقتصادية، ونفسانية، فضلاً عن أنها بالطبع ظاهرة تاريخية؛ لأنها تتم في الزّمن التاريخي، ولأنها مشروطة بكُلّ ما حدث من قبل» (2). وأيضاً، فوق هذا وذاك، هو ظاهرة ثقافية بامتياز.
لهذا لا يمكن اعتبار الظاهرة الدينية، مجرد ظاهرة ميتافيزيقية متعالية ومحجوبة عن رؤية البشر وبصيرتهم، بل هي في متناولهم ويمكنهم ملاحظتها وإدراكها والإحساس بها، إذا ما أرادوا واستوعبوا ذلك فعلاً. لكن شريطة أن يعقلوا ويتعقلوا الدّين، بظاهرياته وبنياته ومعانيه المتعددة، ويدركوا معرفياً وفكرياً حدوده وجوهره كدّينٍ أولاً له خصوصيته، وليس بوصفه شيئاً آخر يمكن التلاعب به وإفساده وتجييره لخدمة مصالح أخرى. وأن يكفوا عن النظر إليه، من منظور عصبي أو أيديولوجي أو مذهبي أو طائفي ضيق، تثار بسببه النعرات والعداوات والحروب، وتضطهد باسمه الكرامة الإنسانية والحريات. وألا يخلطوا بين الدِّين والدنيا، ويكفروا أصحاب الديانات الأخرى، ويقيدوا العقول والحريات ويثيروا الفتن ويضيقوا على حياة الناس، ويعرقلوا حركة المجتمعات، ويقصفونهم بتلك الأفكار الظلامية المتشدّدة والمسيسة. لقد علّمنا ديننا الحنيف، المحبة والتسامح والتفكّر والتراحم والسلام؛ فمن أجل مَنْ ننسى كل هذا، ونتحول إلى قنابل موقوتة مستعدة للانفجار في أي لحم حي؟
(4)لا يمكن إذاً للثقافة العربية، وفي ظل هذا الفكر العدمي الأسود والخانق الذي تمارسه عليها عقلية الحصار، أن يُكتب لها النجاح والعافية؛ من دون صحوة ثقافية مضادة، تكنس هذا العفن كله وتقضي على مسبباته من الجذور.
لهذا ولكي يتسنى لنا تفادي موجات الغرق الثقافي المتتالية، يلزمنا أولاً وضع خارطة طريق جديدة للثقافة العربية، تدعم الثقافة الوطنية والقومية، وتدفعهما للأمام دائماً. ثقافة مبنية على خطط استراتيجية معمقّة وتحديثية وعلمية، تسندها المؤسسات الثقافية والتربوية والإعلامية، ويحميها القانون من أي تلاعب أو نكوص. ثقافة ديمقراطية حقيقية، تضمن حرية الرأي والاختلاف والتعددية، يقودها الفكر المعرفي والفلسفي والأدبي والفني، ويرفعها العلم والابتكار للتطلع نحو المستقبل دوماً. ثقافة مرنة ومنتجة ومستنيرة، لا يحكمها الارتجال أو المزاجية أو الانفعال أو ردات الفعل الحمقاء. ثقافة تستطيع رؤية كل فروعها بنفس النظرة الحانية تلك، المشجعة على الحياة وعلى الإنتاج معاً، دون عصبيات، أو شوفينيات، أو مؤامرات محتملة. ثقافة تفتش عن نفسها بنفسها، تفتش عن معناها الذي أوجدها كثقافة أصلاً، وكيف يمكن لها بالتالي أن تتحصل على خصوصيتها، وأن تحصن نفسها من الأخطار التي تتهدد إنسانها يومياً، وكيف تستطيع كذلك أن تبعث في نفسه الثقة وتحرره من عقدة النقص والجهل والأفكار المسمومة التي يعيشها. ثقافة يصرف عليها بسخاء وتعطى الأولوية في سلم الاهتمام الوطني والقومي. ثقافة للجميع ودائمة، وتصل إلى آخر نقطة ممكنة. ثقافة تنتمي لعصرها، وتكون مطلعة على الاختراعات والمعارف الجديدة، وعلى كل ما يدور حولها. ثقافة حاضنة وليست طاردة، مفتوحة على العالم وآفاقه الخصبة والرحبة، ولكن بوعي وانتباه ويقظة كاملة. ثقافة ملتزمة بهويتها الوطنية والقومية، ومن دون إقصاء لأي هوية أخرى. ثقافة متصالحة مع نفسها، ولا تربي الوهم والخداع والكراهية في نفوس المجتمع. ثقافة تقرأ ميكانزماتها التكوينية باستمرار، تحدب على ماضيها دوماً، مسائلة وباحثة وناقدة؛ ولكنها لا تحيد عن خط يومها وغدها شبراً واحداً. ثقافة بيضاء نظيفة، بلا شبهات وأصابع قذرة، تذهب في كل الأزمنة وتعيش في جميع الأمكنة ولا تنسى نفسها مطلقاً.
هذه الثقافة، وإذا ما تحققت فعلاً، فإنها ستكون ثقافة المستقبل. لأن المستقبل اليوم، يعتمد على الثقافة بشكل أساسي وجوهري، وذلك لأنها تجعل المشاريع التنموية للبلدان، أكثر استدامة وفائدة ومتانة وسلاماً وسعادة.
هامش
1 ـ جيرمي ريفكين، عصر الوصول، ترجمة: صباح صدّيق الدملوجي، المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص:466
2 ـ ميرتشيا إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة: سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة، 2007، ص:133
*كاتب من الإمارات