قيس مجيد المولى
ترمز المخيلة أحيانا عندما تبدأ بتصور المشاهد ثم خلقها إلى كشف مناطق الإرتباط وخاصة حين تقترب من أحداث متماثلة وبالتالي فأن أي تكرار من قبل المخيلة لتلك المشاهد ينشأ عنه استلام صور مقربة للشيء المكرر، أو بالأحرى الذي يقع عليه التكرار.
وهنا نعني بالتكرار؛ تأثير مشهد ما على المخيلة الشعرية يرغمها لعمل إجراءات معينة على هذا المشهد ضمن مفهوم مبدأ الإرتباط، وهذا المفهوم لا يشكل إرتباطات متصلة ومتتالية بل هي ارتباطات مجزأة بفعل تشظي العقل الباطن وكذلك الطريقة التي يتم التفكير بها تجاه كيفية معالجة هذا التشظي، وكذا نوع المصادر التي توحي لنا بما يثير الإستعداد لقبول المجهول، وهو أشبه بالمران النافع لعملية الإستبطان.
أي أن المخيلة أحياناً تتشكل من مجاميع من الصور المتقاربة المتباعدة في الوضوح وهي ضمن هذا الوصف تبدو سلبية للوهلة الأولى وتكون إيجابية حال ظهور المنبه اللازم الذي يكشف عن توافق ما بين لحظة القبول ولحظة التكيف التي تحدثها الإنعكاسات النفسية والمعرفية والأسطورية بعد فترة من الإنطفاء، وهذا الإنطفاء يكون انطفاءً مؤقتاً أثناء عملية الخلق الشعري لأسباب متنوعة من بينها عدم القناعة بما يصل إليه الشاعر أثناء كتابة النص، أو الإصرار على البقاء في حيز واحد لإنتاج فكرة مركزية واحدة، أو محاولة التخلص من مشهد دخيل وعدم القدرة على إحلال بديل عنه رغم مساهمة البعض من الملكات العقلية كالذاكرة مثلا في إستجلاء الماضي وتقديمه بخصائص جديدة بفعل التشويش المستمر للصور الذهنية، وكذا ضروب الفرضيات التي تشترك بها أجزاء من العقل لتقديم نوع من الإسناد للذاكرة لإعطائها مساحة أوسع في عملية التذكر، وهو ما يعني الدخول للأشياء المبهمة ورؤيا المناطق الأكثف إبهاما، أي اختيار نقطة ما للإستدلال على شكل ذلك الإبهام ونوعه.
وهذا لا ينطبق على الصور فقط، وإنما ينطبق أيضا على شعور المخيلة بالأصوات والألوان وهو أيضا بمثابة المران الذي يمكن بواسطته التدليل على شيء من خلال الصوت المناسب له بدلا من الصوت المعرف به وتجسيد هذا الشيء في معنىً ما أو نغمة أو لون.
وتلك العمليات عمليات مشابهه لما تقوم به حواس الإنسان وهو كما ذكرنا ينطبق على المخيلة إن اعتبرنا أن لكل شيء مستلماته لتشخيص الأشياء والقبض عليها من قبل وظائف الحواس بالرغم من وجود (في الشعر خاصة) أشياء غير مطابقة للخصائص التي نتحسسها في الحياة ناهيك أن الأشكال تخضع لحالة من التحولات (المغلق – المفتوح – المتناظر – المتعاكس – الدائري …)
ولكن هذه الأشكال تخضع لبيانات جديدة تصهرها بأشكال جديدة بحيث تعطي أبعادا غير منظورة وقابلة في نفس الوقت على التحلل والإحلال وخلق النظام الغامض الذي يشكل مدخلا للهروب من الواقع والمألوف المستبد في الذاكرة الموروثة لتبدو بعد ذلك تلك الأشكال أشكالا منسقة.
وهنا فإن الشكل المنسق لا يعني وضوح هيكليته المكون من المفردات والأصوات وإنما وضوح قدراته التنسيقية مع ما يختاره الشاعر من مؤثراته العاطفية وينسجم انسجاما كليا ومفيدا مع تلك الأشكال التي تعني المواد الأولية التي يختارها الشاعر أو بالأصح تختارها المخيلة والتي تعمل بالضد لا على وحدة بعينها وإنما العمل بمفهوم الإنتباه الموزع والذي يعبر في أحايين كثيرة كونه ضربا من ضروب النشاط المصاحب لقدرة المخيلة على تفكيك اتجاهاتها لتتمكن من التحول السريع بين المشاهد بعيدا عن بؤرة الإنتباه المركزية.
وتبدو عملية التداخل (وهي عملية يقدرها الشاعر على أنها خيط ما بين الصور العقلية وحاسة معينة، أو هي ربط لأفكار بحاسة ما) وأكثر الأشياء التي تقع ضمن هذه العملية التصور اللوني والتصور العددي وتصور المتتاليات والمتشابهات ولكن أهم تلك التصورات هي تلك التي تقع خارج تصور العقل وأهميتها تكمن في أنها صور متنقلة تختفي وأحيانا تمحى ولكنها تُعاد تلقائيا بتأثير ما وبقدرة جديدة وبتصور فعال ورموز مجسمة وهو ما يعطي لعملية التخيل طريقا آخر للوصول الى مراكز اللاشعور للوصول للأشياء الدفينة والتي لايعيِها غيرُ وجدان الشاعر ورغبته بالسمو في عالمه.
ميدل ايست أونلاين