عائدٌ إلى الحياة


*محمد سعد شحاته


لا أعرف من سرب خبر الحادث لأمي وكيف عرفت به لحظتها، أنا أعلم ــ عين اليقين ــ بالرابط السري بيننا وبينها! هذا الرابط الذي يجعلها تقفز ملتاعة من نومها إذا وقع شيء ما لأحدنا رغم سفرنا المستمر وشتاتنا في الأرض بعيدا عنها! قبل أن أركب السيارة مباشرة احتد النقاش بيننا لأنها كان تصر على مرافقتي متعللة بأنها ترغب في الاطمئنان على أميمة بنت مختار أخي، وقالت إنها ستمكث معه لأيام لكنني كنت أوقن أنها ترغب فقط في أن تطيل الساعات التي تمضيها معي قبيل عودتي ــ مرة أخرى ــ إلى مسقط، ولما لم أكن لأتحمل فراقها، ووداعها قبيل سفري؛ صممت على ألا تركب وأن تنزل من السيارة، فطلبت مني أن أصطحب ابن شقيقتي معي ليؤنس سفري لكنني رفضت وأنزلته من السيارة بعدما سبقني إليها، ثم أنزلت عمر، ابني، أمام بيت جده الراحل طالبا منه انتظاري عند تيتة «جدته» ريثما أسلم على «إيمو» ثم أرسل له ليلحق بي في عمان فامتثل أيضًا متنازلا عن اصطحابي إلى الإسكندرية وتمضية أيام مع عبدالرحمن، ابن عمه الذي يعتبره بمثابة توأمه؛ ليتركني مع سائقي نواجه مصيرنا في الحادث بعد أقل من نصف ساعة فقط!

لا أعرف من أخبر أمي وكيف تلقت الخبر؛ لكنني أعرف أنها لحقت بنا بسيارة ونحن على أبواب مستشفى رشيد العام، تجر ساقيها المريضتين وأعوامها السبعين فوق كتفيها وتفتح كتاب اللهفة واللوعة منشورًا لتقرأه في وجهها! ابتسمت لرؤيتها معاتبًا لها على المجيء والحركة رغم مرضها، فردت باكية: «كنت مستعجل تروح له لوحدك وبتنزلني من العربية عشان يحصل لك كده!»، ثم هاجمت الجميع الذين انسلوا من ورائها متعللين بمشاوير وهمية ليلحقوا بها ظاهريا ليكونوا عندي في المستشفى دون إثارة الخبر أمامها، لكن حركتهم غير المعتادة وقلقها دفعها للتقصي بطريقتها فاتصلت ببيت أخي مختار في الإسكندرية؛ فلم تجده لتحدثه فازداد قلقها، وعندما تحدثت إلى زوجته سألتها مباشرة: «محمد راحوا بيه على أي مستشفى؟» فاعتقدت أن أمي لديها حبر بالحادث فردت عليها: «مستشفى رشيد يا ماما»، وهنا امتلكت السيدة خيط الحقيقة وراء الحركات المريبة التي أشعلت قلقها وحصلت على كل الإجابات التي تريدها من زوجة أخي التي انطلت عليها الخدعة فانزلقت تحكي.. فلم تُكذِّب المسكينة خبرًا، كما يقول المثل، وجرّت ساقيها المريضتين وأرسلت حفيدها، أحمد ابن شقيقتي، ليحضر سيارة أجرة تقلهما معًا إلى المستشفى، مستندة عليه وهي تجر ساقين أرهقهما روماتيزم المفاصل والسن، ولما أن رأى سائق سيارتها المستأجرة لهفتها في الوصول؛ أسرع بدوره على الطريق؛ لتصل بعدهم بدقائق، وتفتح على الجميع نيران غضبها ولهفتها وخوفها على ابنها..
أنا أعرفها! لن تستسلم لأحد فيما يتعلق بنا! لن تستمع لأي أحد يطلب منها أن تمكث في البيت ليطمئنها الجميع على أحد أبنائها، ولن يكون إلا ما تريد هي، وما تريده دائما هو أن تبقى بجوارنا ترانا أصحاء وتطمئن بعينها علينا لا بالهاتف أو بحكاية ممن رآنا ليخبرها!
أعرفها تمام المعرفة فيما يتصل بأحدنا؛ لذا أشفقت على من تخيلتهم يحاولون إقناعها بألا تجر نفسها لتركب سيارة لتلحقنا، كما ابتسمت لها لأنني أعرف أنها ستنتصر على أي أحد أو أي شيء يعوقها أو يبعدها عنا!
وعلى الرغم من هذا اليقين بمعرفتي بما ستفعله كنت أول الذين يرجونها أن ترجع إلى البيت وألا تواصل الرحلة معنا إلى الإسكندرية، لكن من يستطيع أن يصمد ضد إرادتها ويجبرها على أن تفعل شيئًا مغايرًا لما تراه يقربها من ولدها المصاب فليرفع يده أمامي لأعرفه!
– هل وضع الجبيرةَ طبيبٌ؟!
على مدخل المستشفى العسكري أوقف المجندون السيارة ثم أذنوا لها بالدخول عقب التأكد من أنها تُقلّ مصابًا في حادث وسمحوا للمرافقين بالدخول للمساعدة في الكشف الأولي الذي يتطلب حمل المريض مصاب الحادث خلافا لقواعدهم الصارمة في مواعيد الزيارات والسماح للمرافقين بالتواجد في المستشفى في غير أوقات الزيارة.
صعدت السيارة الممر الممهد الممتد حتى مدخل الاستقبال، وتعاون إخوتي مع السائق وأنزلوني من السيارة على سريري بلطف وهدوء؛ كانت الضمادة الجبسية قد ثبتت ساقي فلم تتحرك وكانت مأمونة الجانب خلال النقل فكان الإحساس بالألم أقل نظريًّا، ومجرد أن أنزلوني كنت أعرف أنهم يطبقون قاعدة منع التدخين في المستشفى بصرامة تليق بجنود ينفذون أمرًا عسكريًا من قائدهم، كنت أريد أن أستعيد بعض شتات ذهني وأستحضر تركيزي أو ما أستطيع استحضاره منه؛ فطلبت سيجارة وأشعلتها في هواء فناء المستشفى، كان البحر يرسل هواءه لطيفا في حر أغسطس القائظ، وبدأ إخوتي يتضاحكون على شأني وإصراري على التدخين؛ أعرف أنهم كانوا يخففون على الموقف؛ فبعد خطوات قليلة في داخل الباب الذي نقف أمامه، لا نعرف ما سنلاقيه، ولا كيف سيكون الحال، وعندما انتهيت من تدخين سيجارتي بدأ الجميع في تحريك السرير ودفعه إلى داخل الاستقبال.
استقبلتنا طبيبة برتبة نقيب وكان في معاونتها بعض الشباب الذين يأتمرون بأمرها لكن آمر الجميع كان عقيدًا أجش الصوت، بدأت الطبيبة في إجراءاتها وسمعت من الجميع وصفا سريعًا للحادث، قررت ضرورة إجراء أشعة سينية للتعرف على موضع الكسر وحجمه لاتخاذ اللازم.
ينفذ الجميع المطلوب منهم ــ هنا ــ في المستشفى العسكري بدقة متناهية، يتعاملون مع الجميع كأنهم مصابون في حرب عليهم إنقاذ حياتهم، فهمت ــ أيضًا ــ السبب وراء قصص البطولات التي يرويها المؤرخون حول المستشفيات العسكرية وفرق التمريض وسلاح الخدمات الطبية خلال حرب أكتوبر 1973؛ إنهم ــ الجميع بلا استثناء ــ يتعاملون كأنهم في حرب فعلا! يبدو كل ممرض وممرضة، طبيب وطبيبة مهما علت رتبتهم، وعامل وعاملة، كأنه ينقذ حياة جريح لابد أن يرجع لوحدته لأن ساحة القتال تحتاج إلى جهوده؛ فبأقصى سرعة ممكنة، بأشد هدوء متاح، بأعلى مهنية ودقة، ينجز عمله. هو أو هي حلقة في سلسلة ممتدة متكاملة للعناية، ينفذون الأمر الطبي على الشكل المفترض أو كما نعبر نحن: «بالضبط كما يقول الكتاب».
صرخت الطبيبة عندما طالعت صورة الأشعة غير مصدقة أن الجبيرة الجبسية حول ساقي من صنع أطباء حصلوا مثلها على شهادة البكالوريوس في الطب والجراحة، مبدية استنكارها لأن تكون هذه الجبيرة قد تمت على يد طبيب في مستشفى! فأقسم لها مرافقي! فعلا صراخها فيهم، كان انفعالها متجاوزًا المهنة والعرف العسكري الصارم إلى الأفق الإنساني لإنسانة تعرف أن الذي يرقد الآن بين ذراعيها على نقالة الإسعاف صار مهددا ببتر ساقه لأن «واحدًا ما» يعمل طبيبًا في مستشفى حكومي، جبر كسر ساقه بشكل خاطئ عن عمد، بشكل لا يمكن معه للعظام أن تلتئم ثانية! ولما علا انفعالها، جاء صوت الآمر الأجش حاسما: «يا دكتور احنا هنعمل اللي علينا، اتفضلي قدام حضرتك حالة مصاب في حادثة، انسي اللي اتعمل له وهنعمل شغلنا مظبوط!»؛ فردت: «يا فندم دي تاني حالة النهارده تيجي من مستشفى حكومي متجبسة بالغلط! لو استنوا شوية كانت رجله انتهت!»، لكن تبريرها لم يفلح مع الصوت الأجش فكرر: «انسي اللي اتعمل له يا دكتور! فكي الجبس واعملي شغلك مظبوط لمصاب في حادثة، ملكيش دعوة باللي اتعمل له قبل كده»!.. وهكذا بحسم عسكري؛ صدر الأمر بالتعامل من نقطة الصفر؛ فبدأت الطبيبة بمعاونة من المناوبين معها في قص الجبس من على ساقي، وأمرت بإجراء تحاليل وأشعة مقطعية وسونار على أجزاء متفرقة من الجسم لاستطلاع الآثار الأخرى للحادث واستكشافها، ورجعت مرة أخرى.. بلا جبيرة.. ساقي حرة.. أتقلب مع خطوات دفع التروللي فوق فواصل الأرضيات وفي رجرجته على عتبات الغرف المختلفة.. لأصرخ من جديد..
حركةٌ هامسةٌ؛ كأن اللائي يقمن بها يطرن في أرجاء الغرفة؛ فلا تسمع إلا رفَّة جناح عابرة، بصوت مكتوم، لا يصل إلى الطنين، والبسمة المشرقة تملأ الوجه في هذا البكور، الشمس تبدو من الزجاج اللامع ساطعة، مشرقة في غير ما يحجبها، أضفت نظافة الزجاج عليها إشراقًا، تأتي الممرضة بالزي الوردي وكأنها تحاور كائنات عليا في الغرفة فلا تسمع من صوتها إلا همسًا.
إنها السادسة من صباح اليوم الثاني للحادث؛ اضبط ساعتك على الموعد الذي تجيء فيه كل يوم لتضع في فمك بعض حبوب الدواء أو تأخذ قياسًا بالمؤشرات الحيوية من نبض وحرارة، أو تضع في الكانيولا المثبتة بذراعك محلولا جديدا. هيا! تعوّد على الإيقاع المنضبط لممرضات المستشفى العسكري! واستعد! فخلال ربع ساعة ستبدأ المسؤولة عن نظافة الغرفة في ترتيبات نظافتها وغسل الأرضية بالمطهرات نفاذة الرائحة، وفي السابعة إلا دقيقة واحدة ستفتح المسؤولة عن إطعامك باب الغرفة حاملة وجبة الإفطار، وبعد نصف الساعة تعود لأخذ الفارغ، تتلوها أخرى لتأخذ ما ترغب في تناوله على الغداء، مع دقات الثامنة تطرق بابك أخرى لأخذ القياسات الحيوية وتسجيلها ثم تضع في فمك ما قرره لك الطبيب من علاج لحين إجراء العملية، لا تعرف ماذا كتبه لك في روشتة الدواء! فقط في الموعد المحدد ستدخل الممرضة حاملة حبوبا أو سوائل للحقن! حركتك منعدمة! لا تستطيع تحريك ساقك المكسورة من الثقل التي تم تثبيتها به وفردها لنهاية السرير، وإن غامرت فالصراخ أنيس فعلك!
دقائق ويدخل طبيب يضع نجوما صغيرة لا تكاد ترى على جيب معطفه الأبيض، لا يأتي منفردا، يصطحب معه جيشا من المساعدين الذين يضعون رتبا أصغر على جيوب معاطفهم، ينصرفون بعدما ينظر فيما دونته الممرضة من قياسات، ويقرر علاجات جديدة؛ لا تعرف شيئا عنها، هو كتب، وجيوش من الممرضات تعمل في صمت خلفه، يغادر جيش الأطباء الصغير الغرفة، وبعد نصف ساعة يدخل طبيب شاب يضع نجوما ثلاثة على جيب المعطف الأبيض، مبتسمًا يعرفك بنفسه وبأنه سيكون معك حتى خروجك من هنا بالسلامة، مؤكدا على أنك إن احتجت شيئا في ليل أو نهار فهو معك وما عليك إلا أن تطلب من أي ممرضة أن تطلبه! وكما دخل مبتسما يغادر ولا يبقى منه إلا أطياف بسمته!
مع ساعات نهار اليوم الثاني للحادث؛ بدا الألم مريعًا، وأصبح احتماله غير ممكن! نائمًا على ظهري، كنتُ، مثبتة قدمي اليمنى في آخر السرير بكيس بلاستيكي مملوء بعبوات من محاليل الجلوكوز ومياه الحقن؛ لتظل ساقي مفرودة بين جبيرتين من مادة مقواة، بين الورق المقوى والبلاستيك، لا تسمح للساق بالحركة فلا تنثني أو تتحرك. الحركة مغامرة في حد ذاتها، التّقلُّب في السرير رفاهية لا أملكها، ظهري على حشية إسفنجية مكسوة بالجلد؛ الإحساس بالحرارة يزيد وكأنني في حاجة لشيء جديد يضيف لما أعانيه!
كسرًا للملل بالنظر في سقف الغرفة؛ طلبت أن يحركوا سريري بالقرب من الشباك الزجاجي الواسع النظيف! لا فاصل بين مبنى المستشفى والبحر من الجهة التي تقع فيها غرفتي! شباك الدور الثالث يبدو مرتفعًا كاشفًا مساحة منبسطة من ماء البحر وفضاء السماء الذي يحتويه، لكن الحرارة التي تضربني على غير توقع تفسد المنظر، كما أن المحاولة الفاشلة لرفع الرأس للنظر تضاعف الألم فأقرر أن يرتد بصري إلى سقف الغرفة خاسئًا وهو حسير! بعدما فشل في أن يسمو بي فوق آلام الجسد، وحرارة الحمى التي تضرب في مهارة!
يشدد الأطباء وفرق التمريض على منع التدخين نهائيًّا! الغرف محكمة الغلق، التكييف مركزي لا تتحكم الغرفة المنفردة فيه إلا بالغلق أو الفتح! لكن الغرفة مغلقة! لا شيء هنا يساعد في كسر الألم وتناسيه! لا أستطيع الحركة للقراءة! لا أستطيع رفع رأسي لأشرب الماء، تمتد يد مرافقتي الماهرة الحانية لتسند رأسي وترفعها في حنو لأشرب أو أقتات! لا أستطيع أن أفعل لنفسي شيئًا فاقد القدرة على أي فعل من أفعال الإرادة، وكأنما ارتددت طفلا حديث الولادة لا يملك من أمر نفسه شيئا، الحمى تضرب في هدوء وتمكن، حرارة غطاء الحشية الجلدي تزيد من الإحساس بدرجة الحرارة، أغمض العينين أملا في النوم، لا نوم يجيء! يرتفع الصوت قليلا قليلا.. ومعه تزيد درجة الحرارة! تتقدم ساعات النهار لتقترب من الظهيرة، يبدو الحل لكل هذه الآلام في سنتيمتر أو مليمترات من مخدر أو مسكن تحقنه الممرضة في الكانيولا المغروسة في ذراعك! النوم غفوات تأتي وتروح كل بضع دقائق! مع الغفوة تضيع الأصوات وتغيم الرؤى، وعندما تروح يضرب الألم نصفك السفلي وتتكفل الحرارة بالنصف العلوي! جسمك ينز بالعرق، الرائحة غريبة على الأنف؛ تتخالط فيها رائحة المطهرات والعرق والحمى؛ نعم! رائحة الحمى! على الرغم من التكييف البارد!
تدخل الممرضة كل حين وآخر لتأخذ قياسًا ما للمؤشرات الحيوية المختلفة، قد تبدد بدخولها لحظة غفوة طارئة أملا في راحة مرجوة، فيتضاعف الإحساس بالألم، وحول الظهيرة يأتي الفرج في غفوة طويلة تمتد حتى يحين موعد الزيارة!
إذا كنت شخصًا متحركًا مثلما كنتُ في سابق حالي؛ فستعرف أن أقصى عقوبة على الإنسان هي أن تمنعه من الحركة، أو أن تحد منها على أقل تقدير، وستعرف ساعتها أن أقصى وسائل البشرية في التعذيب هي السجن حيث تكون الحركة محدودة بالحيز الضيق المسموح.
وإذا كنت شخصًا كثير الحركة أيضًا؛ فستعرف لماذا جعل الإسلام زيارة المريض على هذا القدر من الأهمية، إنك بزيارتك تكسر حاجز السجن الذي فرضه المرض عليه؛ تمنحه حريته خلال دقائق زيارتك!
تقريبًا بهذا الإحساس كنت أنتظر ساعات الزيارة، وأول من دخل من أهلي وأصدقائي طلبت منه أن يغلق التكييف، ويفتح الشباك الواسع ليضرب هواء البحر الغرفة ويجدده، وطلبت من أحدهم سيجارة، ومن الآخر أن يخرج أمام الباب ليمنع الممرضة من الدخول متعللا بأي شيء، وسيتكفل هواء البحر عند فتح الباب بتغيير الرائحة!
كان السيجارة متعة مستلبة لكنها كانت مغامرة أيضًا! حاول أصدقائي ونجحوا في رفع منتصف السرير من تحت الرأس في زاوية منفرجة بذراع وجدوه في أحد أركان السرير، أمكنني أن أنظر إلى البحر بمجرد أن أدير رأسي ناحيته دون حاجة لأن يرفعني أحد، الهواء كان في النهار رائعا، الشمس ساطعة، الحرارة مرتفعة، لكن حرارة جسدي التي تعلو لم تجعل المنظر ممتعا؛ ملت برأسي قليلا ناحية اليسار فأسندت رأسي على إفريز الشباك، وأشعلت السيجارة نافخا دخانها في الهواء، تيار الهواء كان يعيد الدخان كاملا إلى داخل الغرفة، أكملت تدخين السيجارة مسرعًا؛ ومتعة السيجارة قرينة الهدوء، لكن كان لابد لي من الإسراع بتدخينها هربًا من مرور مفاجئ، كانت الليلة بكاملها قد انقضت وانتصف النهار دون أي محاولة للتدخين، وهذا بالنسبة لمدخنٍ شرهٍ مثلي كثيرٌ، سرى أثر النيكوتين في الدم مثل السيجارة الأولى بعد إفطار صيام يوم طويل صائف في شهر رمضان الكريم، وأحسست بالخدر يتسرب إلى أناملي والدوار الخفيف يقترب من رأسي؛ الطبيعي في هذه الحالة أن أدخن سيجارة أخرى؛ ففعلتها ــ هذه المرة ــ بهدوء، قائلا لنفسي: «سيلومني الأطباء على تدخيني إذا تصادف ومر أحدهم علينا، لكن جيد! هم يعرفون أنني مدني وأنني مريض لا أستطيع الحركة! وعليهم ــ باعتبارهم أطباء ــ أن يتحملوا مريضا مدنيًّا لا يلتزم بصرامة أوامرهم العسكرية! بل ستكون هذه فرصة طيبة لهم ليتعرفوا إلى وجه جديد من التمرد المدني على الحكم العسكري! أنا مريض وهم أطباء وعليهم أن يتعاملوا مع مرضى غير مثاليين أحيانًا»! بهذه القناعة واصلت تدخيني باستمتاع متناسيًا درجة حرارتي المتأرجحة، ولما انتهيت طلبت من مرافقيّ فتح الباب؛ فهجم هواء البحر قويًّا أضاع رائحة الدخان من الغرفة وحملها مباشرة إلى «كاونتر» الممرضات؛ فأخذت إحداهن تتبع الرائحة حتى أتتنا وسألت إن كان هناك من يدخن، قلت: الآن لا، فقالت: «أنت مدخن؟»، قلت: نعم!، فشرحت لي تشديدات الأطباء على ألا أدخن لأنه سيرفع ضغطي بما يؤثر سلبا على التخدير عند إجراء الجراحة، بالإضافة إلى أن التدخين ممنوع تمامًا في المستشفى، وبعدها في المرور الليلي للطبيب المناوب أخذ يشرح ما قد يتسبب فيه التدخين خلال تخديري للجراحة، وأنهم يفضلون لو توقفت قبل الجراحة بأيام وبعدها أيضا خوفًا على ضغطي! لكنني كنت حسمت قراري فيما بيني وبين نفسي: «أنا مريض مدخن وهم أطباء معالجون، وإذا كانت كتب الطب تشرح حالات المرضى المثاليين الذين لا يدخنون؛ فعليهم في المستشفى ابتكار علاجات ناجعة في مواجهة مريض مدخن قرر أنه لن يتوقف!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فصل من كتاب يصدر قريبا بالاسم نفسه
المصدر: مجلة نزوى 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *