*أحمد الشيخاوي
خاص ( ثقافات )
(تشبهني في انفجار الجرح) أنموذجا
يستطيع أي مواكب مؤمن بعينه الثالثة ومدقّق في ما تجود به أنامل شاعرتنا المتمرسة ضحى بوترعة كما عوّدتنا . يستطيع الخروج بتأويل منطقي يفيد حجم النضال الإبداعي و مدى قوة الصوت النسوي الصاعق و الأشد التحاما بتجربة حية نواتها الذات الإنسانية و هي ترسم اتجاهاتها الزئبقية نحو الآخر والكونية عموما.
هي مقاربة نوعية رامية إلى إضاءة ما يحجبه الكامن خلف ألوان المكون البصري في قصيدة حداثية بامتياز تنهل من علياء اللغة لتفجر منظومة معان كما تمليها ريشة المعاناة الضاغطة ، دون حشو أو ارتجال يحمل الكثير من التّجني على الذائقة .
من أول الحكي،تفرز العنونة ثيمة الانفجار كعنوان فاره وبارز تصطبغ به لحظة استنطاق الهوية العربية في الهزيع الأخير من تلاشي ملامحها،ولحظة الأنين تحت نير جراحات ذات جذور تاريخية موغلة في القدم و شاهدة على الأخطاء السياسية وتراكماتها .
ثيمة الانفجار هذه في استنساخها لمتتالية دلالات تؤثث مفاصل النص الومضي الشذري المراهن على إيقاعات التشظي كمرآة صافية وفاضحة منبثقة من وإلى الذات الموسومة بعار اللحظة الرمادية الهاربة .
لحظة الخور والقصور والتمزق لكن… وكما أقول دائما : في جلباب الغد يوجد الأمل المشعّ من البعيد.
منتشرا بين صوتين
كنا على وشك العناق يطوقنا بالجنون …
هناك في أعالي اللغة نلتقي …مفتونة بدم البابلي …
فاقرأ نارك علينا في خرائط التاريخ …
والتي تعد ولائم الفرح فينا …
وتنشرنا في سقف الشمس المتعبة …
ثمة مواقف أكثر جرأة وسطوعا، متمركزة بين المعية والرفض،من الغباء تحاشيها وإهمال ما تنطوي عليه من أسرار ورسائل محذرة من التبعات الوخيمة لإقصاء الفعل الثقافي و الحيلولة دون ترسيخه وإرساء حيثياته وفق ما يصب في المخطط الإصلاحي التصحيحي الهادف إلى إنهاء الفوضى الآنية و كل أشكال الدمار و الانحطاط والأنانية .
نحن بصدد خبايا أسطر شعرية متمردة بمنأى عن الروح الإنتقامية الحاقدة.
كما أنها أسلوبية رائقة جدا متأسسة على استحضار الأنوية الواعية في توجيه الخطاب المُقنِع للآخر دون نية مبيتة مدنسة بجهالة التحريض أو نشر الفتن شأن الحاصل مع حثالة ممن يعزفون على الوتر العقدي ويستثمرونه بتفنن وإتقان في تفريغ مآربهم الذاتية الرخيصة.
المعني بالخطاب هنا، قاب قوسين أو أدنى من البابلي المتخبط في دمه الزكي، هذا الباسل الذي لم يختر يوما هذا المصير الكارثي المفجع .
بقدر ما ولج عوالم الحلم المشروع من أبواب تمجيد الأخلاقيات ولغة الحوار والمقارعة الراقية والوازع الإنساني المتشبعة به ماهية الثورة والتمرد الحضاري على أجهزة دولة القمع ورؤوس الخيانة وعصابات الإرهاب الفكري والديني وكل متحيز لنفعيته متكالب على مصالح الشعب والوطن.
الكل معني إما على نحو مباشر أو غير مباشر، بخطاب شاعرتنا،بمن فيهم إنسان التراب الآمن المطمئن ولمّا تجرّب بعد فيه ثورات تمييع الربيع العربي ومحق محتواه .
ولما يذق بعد ذات الكأس كأس الموت والمشهد الجنائزي ومناخ الدموية والاضطراب .
فما المحنة ذاتها ، ببعيدة عمن يكفرون بفرص سانحة للرقابة الذاتية ومحاسبة النفس المقصرة و الميالة إلى الاستهتار والمجون .
ما البلاء هناك ببعيد عمّن يجحدون نعمة توفر مرايا الخلو بالذات .
وما القيامة التي تجتاح وترمل وتفجع وتدمي قلوب وعقول إخواننا بمنأى عن الجميع.
لا سيما أن الهم ّمشترك ويفترض ألا يزيغ عن سكة المفاهيم المكرسة له والباعثة على تبنيه بكل فخر ومباهاة واعتزاز..
شفاف صمتك اليتيم … تعتقله الأغلال اقترب … في مدخل السحابة الغائبة …
…في سقف القلب المهترئ…
قلبك الذي يسيل زجاجا في دمي النافر في النصوص
ما الذي يجعل تونس الخضرة والماء السّيال والموقع الجغرافي الخلاب والثروة الجمة المتناثرة ،كوطن ،يجعلها بعيدة؟ وعلى مسافة من الذات الإبداعية.
ربما الذاكرة المثقوبة المتنكرة لأولى التضحيات والتي هي من توقيع فتى مهمشا مقموعا ما انفك تتقاذفه العبثية والدونية والغبن ومغامرات فتح ألف جبهة على تحديات و إكراهات ما يشبه الحياة، وينقلب إلى شرارة أولى صنعت كل هذا الجحيم.
و لربما كواليس الصمت كوقود لانفجار موقوت لمجابهة أهل المناصب والمكاسب في امتطاء مبتذل ومهزلة بغيضة مفبركة قائمة على جثت الشموس والقناديل الآفلة فداء وقرابين لوطن أولى الثورات عربيا.
لذا فاللحظة التي يعيشها المنادى عليه هنا، و حنجرة دعوته المتكئة على نبرة وجدانية مرغبة في الدنو وطمس المسافات و إلغائها ،تعد لحظة فارقة و رمزية مولّدة للتأكيد على الذروة التي بلغتها شاعرتنا في إبداء الحس الوطني المتقد و المنتصف للإنسانية ختاما.
… إقترب … وافتح لي باب النرجس …
يوشك القلق أن يبدّد عن طفولتي لون المطر.
… لأنك الأطياف القزحية في قدم الغيمة …
لأنك الأشكال في كف الريح … أختم بالياسمين ليلك الشمعي حين تشغلنا النجمة عن الجنون
… وتشغلنا القناديل عن التفكير …
كلما أغلقت وبإحكام أبواب الحلم الإنساني المشروع ، أمعنت الرجعية الممقوتة وغلت وبالغت في ممارسة سلطتها على الصفوة المناهضة ، وأرخت بظلالها الماضوية العقيمة و المعمقة لشتى أسباب تفاقم ظاهرة الدم ومجانية الفتك وتأليه البهيمية والبربرية وإن في ثوب البحت عن البدائل والإنشاد البريء للغد المغاير والأفضل لكن بجناح واحد فقط.
وانتهاء نستشف من نسغ النص كيف أن الشاعرة ضحى بوترعة برعت إلى حدّ بعيد في بلورة تجليات وطن لم يزل يسبح في طور نقاهة مفتوحة على احتمالات كثيرة،عين العقل أن تتم البرهنة على مدى قابلية تفادي الوقوع في مصيدة الأخطاء السابقة،بالموازاة مع استفادة كاملة من الدروس القاسية للتاريخ.
تجليات وطنية كما رسمتها ريشة مبدعة حقيقية لا ينطلي عليها صاع الحيل أو يشوش على بروزها الإرباكي زمن النفاق السياسي الملعون.
كذلك هو عبور المعنى المرصع بهوية الذات،والمتخلل لمستويات شبحية مقصودة لخلق إثارة فكرية وعاطفية لدى المتلقي،إضافة إلى التمكين من سرد حالة إنسانية عبر صياغة مقبولة تقضي بضرورة التصالح مع الذات كمنطلق، كما تحتّم التعايش مع الآخر وكل مكونات الوجود.
___
*شاعر وناقد مغربي