الثقافة العزلاء بين ذيل الطاووس وقرون الوَعْل


*خيري منصور


حين أصدر مصطفى حجازي كتابه «حصار الثقافة» وفي سياق حديثه عن الحصار الإعلاني قدم احصاءات عن الإنفاق الإعلاني في العالم والذي تجاوزفي احدى السنوات الألف مليار دولار وهو أكثر من ثلاثة أضعاف دخل العالم من النّفط، وقبل صدور كتاب حجازي بأكثرمن عقدين كان أحد النقاد قد حذر من الإنْزلاق بقوة نحو ثقافة إعلانّية بعد أن لاحظ أن هناك شعراء وضعوا مواهبهم في خدمة إعلانات منها ما يتعلق بأحذية رياضية.
لقد بدأ حصار الثقافة بأَعْلمتها أي بإلحاقها بالإعلام، بحيث فقدت بالتدريج أهم مكوناتها وبالتالي دورها التنويري، والأعلمة التي تحالفت مع العولمة في أشد تعريفاتها سلبية واستلابا للوعي حاولت تهميش الثقافة وبالتالي دور المثقف، بحيث أصبح ناطقا شبه رسمي باسم نظم سياسية ومؤسسات وشركات عابرة للقارات، سواء كان يعلم أو لا يعلم وتناغم ذلك مع التّنامي الوحشي للرأسمالية التي طالما حلمت بتعميم ثقافتها والتي تتأسس على تبرير الطغيان الاقتصادي الذي يفرز بالضرورة طُغيانا سياسياً ولعل هذا ما دفع باحثين في الاقتصاد بسبب ما بلغته الرأسمالية من جموح وتوحش إلى الاستعانة بداروين لتحليل ما انتهت إليه الحضارة المعاصرة التي أصبحت رهينة للصَّيْرفي والسّمسار وليس للمثقف والحالم، لهذا فالديستوبيا أو المدينة الراذلة هي التي تحققت وليس اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة. 
يقول كريستوفر بيير وجوليا كيربي في مقالة نشراها قبل أربعة أعوام ان الرأسمالية الآن تشبه الطاووس الذي طالما كان مزهواً بذيله الجذاب، ولأن الذيل الطويل يجتذب الإناث، فقد توارثت الطواويس تطوير ذيولها، لكن الحقيقة هي أنها تحولت إلى طرائد يسهل افتراسها، لأنها لا تقوى على مجابهة المخالب والأنياب. الانعكاس الثقافي لهذه الظاهرة البيولوجية نلاحظه الآن ونحن نرصد ثقافة طاووسية لا يخفي ريشها الملون والخاطف للإبصار أية مضامين إنسانية أو مهمات رسولية هدفها جعل الاقامة في هذا العالم مُمكنة والحدّ من نزعة العدوان والتمدد. ثقافة أخضعها السّوق والتسليع إلى بورصات لا شأن لها بها، فلم يعد منسوب الوعي يقاس بما يقدمه من تطوير للأفكار أو أنسنة لما توحش حتى أعلن القطيعة مع الآدميين. انها ثقافة القطعنة بامتياز، فهي امتثالية وبلا مناعة أو لقاحات تُحصنها من التدجين لصالح نظم تراوح بين الباطريركية والثيوقراطية وتستمد شرعية ملفقة من مرجعيات غير واقعية على الإطلاق.
* * *
الأعلمة جردت الثقافة من سلاحها الأشد مضاء حين حولتها إلى شروح وهوامش على متون ايديولوجية، وسياسية أو اقتصادية ذات واجهات ثقافية من أجل التمرير وغواية الرأي العالم، والثقافة ليست صدقة أو زكاة يقدمها المرابي خصوصاً إذا كان من طراز شايلوك، لان عصرنا بخلاف عصر شكسبير، يعز فيه وجود قضاة حكماء يشترطون على من يقتطع لحم الجسد ان لا يسيل قطرة دم واحدة!
وما يحدث الآن تجاوز الاعلمة إلى الاعلنة، فالكتاب إعلان وغلاف أشبه بالفخ الملون الذي يستخدم لاصطياد طائر الحجل، وبورصة النشر أصبح لها سماسرة ينوبون عن النقاد، وفي العالم العربي ليس هناك دور نشر فيما أعلم من طراز غاليمار وفيبر اند فيبر أو حتى بنغوين يتوفر لها قراء مخطوطات من طراز البير كامو وت. س اليوت وآخرين. فالكتاب على الأغلب سلعة تنتجها مقايضة بين ناشر يستهدف الربح وكاتب يسعى إلى نيل الاعتراف. لانه يعاني مما سماه برنارد شو عقدة الاستحقاق.
* * *
ان امثولة ذيل الطاووس حسب التحليل الاقتصادي الذي قدمه الباحثان يمكن تقصيها والعثور على تجلياتها في ثقافة يغلب فيها الكم على النوع، وتستثمر التخلف باعتباره مجالها الحيوي، وما قاله هيربرت ريد عن التحالف بين اقانيم النشر الثلاثة وهم الكاتب والناشر والقارئ أصبح الآن من طراز آخر. 
فالقارئ حذف من المعادلة، لأن النظرية الرأسمالية السائدة وهي صناعة الزبون او خلقه تسللت إلى الثقافة، وأصبح هناك إعلام إعلاني يسعى إلى تجريف الثقافة وتصحيرها بحيث لا تكون هناك أية مصدات أو عوائق لتهريب الخرافة والهذيان والمخدرات الكلامية كمرادف لما يسمى الآن عبر الانترنت المخدرات الرّقمية.
وما لم يخطر ببال دعاة الطواويس وتكبير ذيولها هو أنها أوشكت على الانقراض تماما كما انقرض غزال الإلكه ضخم القرون الذي كانت قرونه تعوقه عن الحركة وتعلق باغصان الأشجار وما يسمى الانتحار البيولوجي في الاقتصاد الدارويني له مرادف ثقافي هو الانتحار العقلي، الذي كان البير كامو قد تحدث عنه باسهاب وعمق عندما قارن بين عدة أنماط من الانتحار بدءاً من الانتحار الفلسفي حتى الانتحار العضوي.
المراحل الثلاث التي بدأت بالعولمة مروراً بالأعلمة وأخيرا بالأعلنة هي مشروع تحركه استراتيجية ماهرة لتحويل الثقافة إلى مجرد فائض أو رفاهية وتحويل المثقف في مجتمعه وتحت سقف النظام السياسي الذي يعيش فيه إلى ذيل طاووس! أو قرون وعلٍ من سلالة الإلكة اعاقته عن الدفاع عن نفسه فانتحر بها.
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *