الروائي السّاذج والحسّاس


*ميادة خليل

ماذا يجري في عقلنا عندما نقرأ الروايات؟ كيف نحوّل الكلمات الى صور ذهنية؟ لماذا نقرأ الروايات؟ من هو القارئ الساذج ومن هو القارئ الحساس؟ بماذا يفكر الروائي أثناء كتابة الرواية؟ ماذا يعتقد حول القارئ؟ كيف يخطط لروايته؟ ما العلاقة بين المتحف والرواية؟ ما العلاقة بين اللوحة والرواية؟ من هو الروائي الساذج ومن هو الروائي الحساس؟ كل هذه الأسئلة يجيب عنها كتاب “الروائي الساذج والحساس” للروائي العالمي وصاحب جائزة نوبل للآداب أورهان باموك الذي سيصدر قريباً عن دار “منشورات الجمل”، ترجمة ميادة خليل. 

الكتاب يعتمد بالكامل على مقال شيلر الشهير “عن الشعر الساذج والحساس” والذي تأثر به باموك كثيراً في بداياته.
وهنا مقطع من الفصل الخامس للكتاب “المتحف والروايات”:
عالم الاجتماع الفرنسي بيريه بورديو كتب بشكل موسع عن موضوع “التميّز” في سياق اجتماعي. بحث, من بين جوانب أخرى, شعور التميّز الذي يجربه عشاق الفن عندما يستمتعون بالأعمال الفنية. بعض ملاحظات بورديو بخصوص المتاحف وزوار المتاحف, لكني أريد تطبيق أفكاره على الروائيين وقرّاء الرواية.
دعوني أبدأ مع قصة شغلت المثقفين في إسطنبول منذ عشر سنوات. بعد ترجمة جزئين لــ بروست صدرت في الأربعينيات والستينيات من القرن الماضي, روزا حاكمين ترجمت الأجزاء السبعة كاملة إلى اللغة التركية بين عامي 1996 و 2002. 
استخدمت حاكمين شكل اللغة التركية بشكل فعال بالنسبة للجمل الطويلة, بالإضافة إلى تمكنها من مهارات اللغة الأخرى, وغالبية صحف إسطنبول أثنت على ترجمتها واعتبرت العمل ناجحا للغاية. الكثيرون تحدثوا عن بروست في الراديو, التلفزيون, والصحافة, والأجزاء الأولى من الرواية حققت أفضل المبيعات فور صدورها. في تلك الفترة, في جامعة إسطنبول التكنولوجية كان هناك عدد كبير من الطلاب الجدد يصطفون للتسجيل مع بداية العام الدراسي الجديد. 
القصة هي أن هناك فتاة تنتظر في مكان ما في نهاية الطابور ــ لنطلق عليها عائشة ــ 
أخرجت من حقيبتها “البحث عن الزمن المفقود” ببعض التباهي والفخر وبدأت في القراءة. بين الحين والآخر ترفع رأسها عن الكتاب لتنظر إلى الطلاب الذين سوف تقضي معهم الأربع سنوات القادمة. خاصة, أنها لاحظت فتاة كانت تقف قريبة منها ــ لنسمها زينب ــ ترتدي حذاء بكعب عالٍ, تضع الكثير من المكياج, وترتدي ثوبا غاليا عديم الذوق مع ابتسامة متكبرة على التكلف السطحي لزينب, شدّت عائشة قبضتها على بروست. وبعد فترة قصيرة, رفعت عائشة رأسها عن الكتاب, وفزعت عند رؤيتها زينب تخرج من حقيبتها نفس الكتاب.
التفكير بأن من الممكن لفتاة مثل زينب أن تقرأ نفس الرواية شيء لا يمكن لها أن تتصوره, حتى أنها فقدت كل اهتمامها ببروست.
بينما يرينا بورديو أن فتاة مثل عائشة تزور المتحف لتثبت أنها لا تشبه زينب, ويكشف أيضاً أن مثل هذه القرارات تأثرت بقدر لا بأس به بالوعي والطبقة الأجتماعية. العوامل نفسها تطبق, كما بينت قصتنا, عند قراءة الروايات ــ لكن هذه التجربة تتطلب فردية أكثر وعمقا أكثر في الجانب الشخصي الذي أريد توضيحه هنا.
قلت سابقاً بأننا عندما نقرأ الرواية نشعر غالباً بأن الكاتب يخاطبنا بشكل خاص, منذ أن حققنا مثل هذه المحاولة في تخيّل كلمات الكاتب ورؤية الصور التي قدمها الكاتب في صيغة الكتابة. في النهاية, نحب روايات معينة لأننا أنفقنا جهدا تخيّليا عليها. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نتعلق بهذه الروايات, التي تجعدت وثنيت صفحاتها. في الثمانينات, عندما أنتعشت السياحة في إسطنبول, كنت أذهب بشكل منتظم إلى محل بيع الكتب المستخدمة الذين يبيعون كتبا تركها السياح خلفهم في غرف الفنادق, من النادر أن أجد روايات أريد قراءتها ــ أغلب العروض كانت كتب الجيب ذات الألوان الصارخة ــ ولمست بأن الناس يتركون الكتب فقط إذا كانوا قادرين على القراءة بدون أن يبذلوا أي مجهود.
الجهد الذي نبذله في القراءة وتصور الرواية يرتبط برغبتنا في أن نكون مميزين وأن نفصل أنفسنا عن الآخرين. وهذا الشعور يربط رغبتنا في التميّز مع شخصيات الرواية, الذين يعيشون حياة مختلفة عن التي نعيشها. عندما نقرأ “عوليس”, نشعر قبل كل شيء بالسعادة, لأننا نحاول الأندماج مع شخصيات تحيط حياتهم وأحلامهم مخاوف, خطط, وتقاليد مختلفة تماماً عنا. لكن هذا الشعور يزيد بعد ذلك نتيجة أدراكنا بأننا نقرأ رواية “صعبة” ــ وفي مكان ما في عقلنا, نشعر بأننا شاركنا بنشاط متميّز. عندما نقرأ عملا لكاتب استفزازي مثل جويس, جزء من عقلنا مشغول بالثناء على أنفسنا لأننا نقرأ لكاتب مثل جويس.
عندما أخرجت عائشة كتابها لبروست من حقيبتها في يوم التسجيل, لم تكن تنوي تضييع الوقت الذي تقضيه واقفة في الطابور, لكنها ربما أرادت أيضاً أن تبين كم هي مختلفة, وتفتعل إيماءة اجتماعية تمكنها من إيجاد طلاب آخرين يشبهونها. 
يمكننا وصف عائشة على أنها قارئة حساسة ــ متأملة مدركة لمعنى حركتها. ومن المرجح أن زينب قارئة ساذجة, بالمقارنة مع عائشة, كانت أقل وعياً لجو التميّز الذي تستطيع الروايات منحه لقرّاءها. على الأقل يمكننا أن نفترض, بدون خطر الوقوع بخطأ أنها أظهرت هذا الأسلوب لعائشة. سذاجة القارئ وحساسيته ــ مثل الوعي لخدعة الرواية ــ ترتبط بالهدف بالسياق والأسلوب الذي تقرأ به الرواية, ومكان الكاتب في هذا السياق.
على النقيض من ذلك, نتذكر أن ديستوفسكي كتب “الشياطين”, أعظم رواية سياسية في كل عصر, كعمل دعائي موجه إلى معارضيه السياسيين, المتغربين الروس والليبراليين ــ بينما العنصر الذي يحاكي القارئ فيها اليوم هو التصوير العميق للطبيعة البشرية.
السياق الذي تُكتب به الرواية, غير مهم, ولا يهم أين تقرأ الرواية. الشيء الوحيد الذي يهم, هو ما يقوله النص لنا. الرغبة في أن نغمر أنفسنا في النص تشبه رغبة زائر المتحف الذي يريد أن يترك وحيداً مع الجمال الخالد للوحة, بغض النظر عن أهداف الشركة أو الحكومة من استخدام المتحف لأغراض دعائية ( كتب توماس برنارد رواية تحت عنوان ” الفنانون القدامى” تلعب بمهارة على هذه الرغبة). لكن من المستحيل الحديث عن الجمال الخالد للروايات, لأنها تكتمل وتُدرك فقط داخل مخيّلة القارئ, الذي يعيش في زمن أرسطو. 
عندما ننظر إلى لوحة, نفهم مباشرة تركيبها العام ـــ لكن في الرواية, يجب علينا عبور الغابة الكبيرة تدريجياً بواسطة تصوير كل شجرة في مخيّلتنا, وبهذا يمكننا أن نصل إلى كل التركيب ونفوز بهذا الجمال الخالد. دون معرفة نوايا الكاتب من البداية, مشاكل ثقافته, تفاصيل وصور الرواية, ونوع القارئ الذي تخاطبه الرواية, لا يمكننا الوصول إلى مثل هذا التخيّل وتحويل الكلمات إلى صور. 
فن الرواية كما نعرفه اليوم, الذي تطور في منتصف القرن التاسع عشر من خلال بلزاك, ستاندل وديكنز ـــ دعنا نعطي الرواية حقها, ونطلق عليها “رواية القرن التاسع عشر العظيمة” ـــ منذ مئة وخمسين عاماً فقط. ليس لدي شك في أن هؤلاء الكتّاب المتميزين سيعيشون إلى الأبد في قلوب القرّاء الإنكليزيين والفرنسيين المعاصرين مثل رموز خالدة, وأعلام للغة. لكني لست متأكداً تماماً, لمئة وخمسين عاماً أخرى من الآن, أن الأجيال في المستقبل سوف يقدرون هذه الأعمال أيضاً.
نوايا القارئ مهمة تماماً مثل نوايا الكاتب, عندما يتعلق الأمر بإتمام وفهم الرواية. أنا, بالطبع, قارئ مثلما أنا كاتب. مثل عائشة, أجد من الممتع أن أقرأ رواية لا يهتم بها أحد ــ أستمتع بشعور أني اكتشفتها بنفسي. ومثل الكثير من القرّاء, أنا مولع بتخيّل كاتب الرواية حزين ولا يفهمه أحد. في مثل تلك اللحظة, أشعر أني الشخص الوحيد الذي يفهم أغلب الزوايا المهملة في هذه الرواية المهملة. أشعر بالفخر لأنني اندمجت مع الشخصيات, وفي نفس الوقت أشعر كما لو أن الكاتب بنفسه يهمس لي الرواية شخصياً في أذني. خلاصة هذا الفخر يأتي عندما يشعر القارئ كما لو أنه كتب العمل بنفسه. كتبت عن مثل هذا القارئ, المتحمس والمعجب بـبروست, في رواية “الكتاب الأسود”, في الفصل المعنون بـ” قصص حب في ليلة ثلجية”. ( أريد أن أضيف هنا بأني أحب الذهاب إلى المتحف عندما لا يذهب أليه أحد, وأنا ــ مثل كمال, بطل”متحف البراءة” ــ أجد احساسا شعري معين للزمان والمكان في متاحف فارغة, حيث الحرّاس يغلب عليهم النعاس وأرضية الباركيه تصرّ). قراءة رواية لم يعرفها أحد غيرك يُشعرنا بأننا نقدم خدمة للكاتب, لهذا نحن نضاعف جهدنا وننهك مخيّلتنا أكثر بينما نقرأ الكتاب.
الجزء الصعب في فهم الرواية ليس معرفة نوايا الكاتب وردود فعل القارئ, لكن تحقيق رؤية متوازنة لهذه المعلومات وتحديد ما يحاول النص أن يرويه. تذكر أن الروائي كتب نصه من خلال تقديم افتراضات بشكل مستمر حول تفسير معقول للقارئ, وأن القارئ يقرأ الرواية ويخمن أن الكاتب كتب الرواية وهو يضع مثل هذا الافتراض. 
الروائيون يتخيّلون أيضاً أن القرّاء يصدقون بأنهم هم الكتّاب أنفسهم, أو يتصورون الكاتب مثل شخص حزين ومهمل, وقد كتب وفقاً لذلك. ربما كشفت الكثير من أسرار المهنة هنا ـــ من الممكن أن تلغى عضويتي في النقابة.
بعض الروائيين يعزمون منذ البداية على تجنب حقيقة أو خيال لعبة الشطرنج تلك مع قرّاءهم, بينما الآخرون يلعبون هذه اللعبة حتى النهاية. بعض الروائيين يكتبون من أجل بناء نصب عظيم في عينيّ القارئ (في إحدى مقالاته الأولى, مقال عن “عوليس”, يُشبه بورخيس كتاب جويس بالكاتدرائية, وبروست أخذ بعين الاعتبار تسمية مجلدات الرواية بعد الأجزاء السابقة من الكاتدرائية). بعض الروائيين يفخرون بأن الآخر يفهمهم , وبعضهم يفخرون بأنهم غير مفهومين من قبل الآخرين. هذه الأهداف المتعارضة تناسب طبيعة الرواية. من جانب, الكتّاب يحاولون فهم الآخرين, يتعرفون على الآخرين ويشعرون بالتعاطف معهم, بينما من جانب آخر يحاولون, بمهارة وإتقان, إخفاء وعرض محور الرواية ــ معناها العميق, نظرة فردية شاملة للغابة من على مسافة. المفارقة الرئيسية في الإبداع الروائي هي الأسلوب الذي يسعى فيه الروائي للتعبير عن وجهة نظره الشخصية عن العالم بينما يرى العالم من خلال عيون الآخرين.
_____
*العالم الجديد 

شاهد أيضاً

جاسم خلف إلياس: التّـنظير الذي يَخلو من التّطبيق ناقصٌ، ولا يُمثل الكلية النّقدية

(ثقافات) جاسم خلف إلياس:  التّـنظير الذي يَخلو من التّطبيق ناقصٌ، ولا يُمثل الكلية النّقدية حاوره: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *