بحثا عن رامبو


د. لنا عبد الرحمن


ربما ينتظرني مساء

فيه سأشرب في سكينة
في مدينة ما قديمة،
وأموت في سعادة غامرة:
طالما أني صبور!.
إنه (رامبو)، الشاعر الذي ظلت قصائده سجلا سحريا لحياته الروحية والداخلية ، المقطوعة عن التاريخ،إن لم تكن صدى له.
من الصعب التوقف أمام تجربة الشاعر الفرنسي (رامبو) من دون مقاربة لفكرة الزمن. فالزمن عند هذا الشاعر تحديدا له دلالته المؤثرة للغاية، فمن جهة قدم (رامبو) تجربته الإبداعية كلها خلال خمسة أعوام فقط، ومن جهة أخرى ظلت هذه التجربة مفتوحة زمنيا على تأويلات متعددة يقاربها الدارسون لإبداعه بتأويلات متفاوتة العمق والشمولية؛ حيث ظل نصه على مدار الأعوام مفتوحا على رؤى وتحليلات متنوعة تزيد من ثراء وعمق هذه التجربة القصيرة في عمر الزمن الإبداعي.هذا الشاعر الذي تبدو حياته ككل جزءا من شعره حافلة باللامألوف، وبالنزق التام، وحرارة الأسئلة المؤرقة. 
وفي مدينة تغط بنوم ثقيل يشبه الموت اكتشف (رامبو) سحر الحياة، وعند ضفاف نهر (الموز) بدأت أولى اكتشافاته الروحية، الطفل الغر الذي عاش حياة أسرية معذبة بين أم متسلطة وأب عسكري حاضر غائب، وجد في القراءة تعويضا له عن الخواء الأسري. فقد امتلك شراهة حقيقية للمعرفة، للحياة، للتنقل،مكنته من كتابة أجمل القصائد التي صاغ عبرها رؤيته للعالم.
في كتاب ضم الأعمال الشعرية الكاملة (لآرثر رامبو)، صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، من ترجمة وتقديم الشاعر رفعت سلام، يكشف المترجم: أن خصوصية هذه التجربة لا تكمن فقط في ” تأسيس الشعر الحر الفرنسي وحسب، ولا في التأسيس لقصيدة النثر في ( فصل من الجحيم) و(إشراقات)، بعد أن وضع (ألويزيوس برتران) ،و(شارل بودلير) الأسس والنماذج الأولى- وهذا ليس بالقليل- بل إنه بالتحديد الخروج على النمط،و الأنماط، دون استهداف تأسيس نمط جديد، حتى لو كان خروجه الشعري قد أصبح – مع الأجيال التالية- نمطا شعريا. إنه الطموح إلى التحرر من كل نمطية في ذاتها، نمطية قائمة، أو قادمة..لا طمأنينة ولا ركون إلى ما تم امتلاكه، فالقضية ليست نصا شعريا، بل كيف يمكن امتلاك العالم.”
لا تكمن أهمية كتاب ( الأعمال الشعرية الكاملة) لـ (آرثر رامبو) في تقديمه قصائد (رامبو) فقط، بل في تضمنه مقدمة موجزة وثرية للمترجم،واحتواء هذا الكتاب القيم إحاطة شبه كاملة بالواقع الحياتي الذي شكل شخصية (رامبو)،وما رافقه من تحولات، ومواقف وأزمات، كما تم تقديم رؤى متعددة لوجوه (رامبو) الكثيرة، وخاصة في علاقته الملتبسة مع (بول فيرلين).
رامبو وبول فيرلين
“مهازل الليل تتوج بالشوك جبينك، أيها العادل!
فلا بد من العثور على سقف. ولتتل صلاتك،
وفمك في دثارك الذي دفع كفارته برفق؛
وإذا ما طرق ضال بابك،
فلتقل : أخي فلتبتعد، فأنا كسيح”.
كان سلوك (رامبو) مع صديقه (فيرلين)، ومع نفسه، ومع الحياة جملة، بالغ التهور والرداءة. ولكن شعره كان مصفاة نورانية لكل هذا.إن تلك العلاقة الحميمة في حياة (رامبو) جديرة بالتوقف لأنها من أكثر العلاقات تأثيرا في مسيرته الحياتية والشعرية. غادر (رامبو) بلدته في شارلفيل في الآردن إلى باريس، بعد تلقيه رسالة من (فيرلين) الذي كان حينها شاعرا معروفا في الأوساط الأدبية. أرسل (رامبو) ل(فيرلين) عدة رسائل يتوسله قراءة قصائده المرفقة معها، وناشده أن يدعوه للقدوم إلى باريس، لكن فرلين لم يكترث في البداية، لكن بعد إحساسه بتميز قصائد (رامبو) ونبوغ مؤلفها، يرد عليه برسالة يدعوه فيها إلى باريس.وهناك يعيش (رامبو) حياة متحللة من القيود والالتزامات راضيا بالفقر والتشرد، والبؤس الشديد، لكن سرعان ما تقوم ” بين (فيرلين) والشاعر الملقب بخنزير الآردن صداقة عاشقة لن تتأخر عن الانفجار في شكل فضيحة، فهذا العشق الموصوم بالعار، يعيشه الاثنان – فيرلين ورامبو- بدون إخفاء”.
وبسبب حرص (فيرلين) على (رامبو)، فقد ساعده على العمل في “تقديم المشروبات”، في مقر النادي الذي تجتمع فيه جماعة من المثقفين، كما سُمح له بالمبيت على أريكة في مقر النادي، فقد كان (رامبو) مقتنعا أن البؤس والتشرد، هما الضريبة التي يدفعها للشعر. وكان من الشائع عنه مزاجه الرديء، وأنه شخص لا اجتماعي، لا بفعل اختيار فلسفي بوهيمي، بل بفعل الميل العنيف والحاد إلى المحافظة على نقائه، والأهم موصلة الكتابة.
لكن علاقة (رامبو) مع (فيرلين) لم تستمر على هذا المنوال، فقد كان (فيرلين) متزوجا من فتاة برجوازية، سرعان ما سمعت عن فضائح زوجها وعلاقته مع (رامبو). يعيش (فيرلين) حياة ممزقة بين إغراءات الحياة المتحررة مع (رامبو)، وبين إغواء العودة إلى زوجته، ونتيجة هذا التمزق يقترح (فيرلين) على (رامبو) مغادرة باريس، لكن بالنسبة إلى (رامبو) لم تكن هناك أي نية للمغادرة إرضاءً لزوجة صديقه، وإشباعا لرغبتها باستعادته، وبعد مفاوضات طويلة يتجه (رامبو) إلى شرق فرنسا، ثم يجد نفسه متجها إلى (شارلفيل) حيث تنتظره أمه. لكن هذا البقاء لن يدوم طويلا إذ سرعان ما يحن الصديقان إلى بعضهما، ويسقطان من جديد في الدوائر الجهنمية من علاقتهما المثلية، والمشاجرات والمصالحات العبثية، مؤسسين نوعا من روتين التعاسة والدراما المتصلة، لأن (فيرلين) يعاني من عذاب ضمير دائم لدى تذكره زوجته وابنه. ولعل الجدير بالذكر هنا أن (ماتيلد) زوجة (فيرلين) قامت بتدمير أدبي رهيب حين تخلصت من مراسلات (رامبو) وزوجها، كما أحرقت مخطوطا كتبه (رامبو) ويحمل عنوان ( صيد روحي). 
جوهر بدائي
لعله من المهم لفهم نوازع (رامبو) ودوافعه، معرفة الرؤيا التي سيطرت عليه طوال حياته،التي تتلخص في العثور على الجوهر البدائي للإنسان، وإعادته إلى قدره بالانتقال إلى مكانه وسيطة بين الرب والعدم. ولذلك، ينبغي العمل على الانحطاط،والمضي إلى اكتشاف القوى الغامضة للشر والألم، التي تدفع في الخفاء الإنسانية، ومن هنا جاءت فلسفته في تشويش الحواس، الذي يعتبر أنه لا ينطوي على أية مجانية؛” لأنه الواجب الكريم، والأليم للشاعر الذي ينبغي عليه، بفضل اللغة، تفعيل تحرر الإنسان، ومن أجل إعادة الميلاد، ينبغي قتل الكائن الاجتماعي الذي ننطوي عليه، عبد العقل الكاذب، الطفيلي، ولن نحقق ذلك إلا بقبول أسوأ الآلام.” 
لقد ظل (رامبو) حالة استثنائية في الشعر الفرنسي والعالمي ، إنه الاستثناء الذي دفع الكثيرون للبحث عن سره. ولعل اعتماد (رامبو) هدفاً لسعي الشعراء باتجاه القصيدة الحديثة،هدف مضلل، ؛لأن(رامبو) في الشعر الفرنسي والعالمي حالة فريدة تماماً كحالة الفرادة التي تمتع بها الموسيقي (موتزارت)، الذي ألف سيمفونيته الأولى وهو في التاسعة من العمر ؛لذا الطفل المعجزة لا يمكن أن يُعتبر ، في السياق الإنساني الطبيعي، قدوة ونموذجا.ً
لقد قُدمت – إلى العربية- ترجمات متعددة لقصائد (رامبو)، واعتبر العديد من النقاد أنه يخسر الكثير على يد المترجم العربي، خاصة في قصائده الغنائية التي تشكل النسبة الكبرى من شعره. ففي قصائده (فصل في الجحيم) ،و (الاشراقات) التي كتبها نثراً بالغ الطلاقة الروحية والعقلية والخيالية حصدت ثماراً أنضج في الترجمة. وفي هذا يكمن سحر الموسيقى الشعرية الخاصة بكل لغة، إذ يمكن ترجمة الصورة والمعنى ، ولكن كيف يمكن ترجمة موسيقى اللغة الشعرية خاصة؟! ورغم هذا نجد في ترجمة الشاعر (رفعت سلام) قدرا جيدا جدا من الانسياب الشعري الساعي للتماهي مع روح النص، وتقديمه للقارئ العربي في ديوان شامل مفصل شمل القصائد، والكتابات النثرية وصورا ورسائل لـ (رامبو)،من بداية إشراقاته الشعرية الأولى وحتى النهايات.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *