رلى راشد
يروي الكاتب الإسباني خافيير ثيركاس في مقال نُشر في يومية “إيل باييس” قبل نحو عام وبعنوان “دروس غارثيا ماركيز الثلاثة”، محطّات عدة دنا خلالها من الصوت الكولومبي المنشأ والعالمي التأثير والذي أفرج عن بساطة قلّ نظيرها بين محترفي صناعة النصوص.
يُخبر ثيركاس مجالسة الروائي غارثيا ماركيز في بهو أحد فنادق كارتاخينا دي إندياس الكولومبيّة في عزّ شتاء 2006 الإستوائي ويصف كيف طلب كأس ويسكي قبل أن يُمسك بذراعه وينصرف إلى محادثته.
في تلك النواحي حيث يروق الناس مناداة غابرييل غارثيا ماركيز بإسم “غابو” تَحبُباً، لم يلبث ثيركاس ان لمس قماشة الصلة التي ربطت الكاتب بناس الأزقّة والحوانيت، ففي حين تأمّل شقاءهم وأفاض في الكتابة عنهم، بادلوه الإهتمام شغفاً واندفاعاً. في وسط الورع والمناخ الإحتفالي الطقسي الذي أحاط بغارثيا ماركيز، ظنّ ثيركاس وللوهلة الأولى، انه في حضرة الحبر الأعظم، على ما كتب.
في كارتاخينا دي إندياس المطرح الذي طبع القسط الأوفر من حكايات أشهر الكتّاب الكولومبيين، تأمل ثيركاس الناس البسطاء يقفون في طوابير طويلة بغية تقبيل يديّ الكاتب إبن جلدتهم التي كوتها الشمس. رآهم يُقْبِلون ليطلعوه على نص لأحدهم أو ليطلبوا منه لَثم جبين أحد الأطفال أو مباركة ثنائي إرتبط للتو.
على نسق جميع قاطني الشطر الجنوبي من القارة الأميركية لم يَحتج هؤلاء المُتصالحين مع مشاعرهم إلى تحفيز لملاقاة مصدر إعجابهم وهم تصرّفوا على سجيّتهم فعدَلوا على هذا النحو مع أنفسهم، مثلما عَدلوا مع الآخرين. أتوا لأن ماركيز أشعرهم بأنه واحد منهم، غصباً عن تاج الجوائز الأدبية “نوبل” ونكاية بالإنتشار الكوني الذي اعتاد أن يسلخ الأصوات الأدبيّة عن أترابها وتربتها.
والحال أن موت غارثيا ماركيز، قبل أكثر من عام، لم يُكذِّب واقع خروجه من مكانه المريح لملاقاة ناس الشوارع ولم يُعَدّل حرارة تواصله معهم، فها هو يمنح من خلال أرملته مرسيدس بارشا نحو ثلاثمائة عنوان حوتها مكتبته الشخصية لصاحب مكتبة جوالة دأب منذ سنوات على التنقّل من دون كلل بين كارتاخينا دي إندياس وقرى جزر الكاريبي مُسوقا للقراءة.
بدا الرجل كنسخة معاصرة من فلورينتينو أريزا الذي حكم عليه خيال الكولومبي برحلة لا تنتهي ذهابا وجيئة، على متن سفينة بخارية، لكن صاحب المكتبة وشهرته مورييو، يصلح أن يكون وفق غابو، إحدى شخصيات ماكوندو، البلدة المتخيّلة في روايته المحورية “مئة عام من الوحدة”.
بحسب صحيفة “إيل باييس” التي أوردت خبر المنحة الأدبية أخيراً، تَسنّى لمورييو رؤية غارثيا ماركيز ثلاث مرات، مرة أولى وهو يجتاز الطريق في شمال كولومبيا قبل ثلاثة عقود، ومرة ثانية في 2007 في كارتاخينا حين حلّ غارثيا ماركيز ضيف شرف على “المؤتمر الدولي للغة الإسبانية” ومرة ثالثة في 2010 عند مدخل “مؤسسة الصحافة الجديدة الإيبيرو أميركية” حين استفهم عن المكتبة الخفيفة الوزن والرحالة والمجانية، عن تلك “العربة الأدبيّة” الذائعة الصيت. تراءى لغارثيا ماركيز آنذاك أن فعل مورييو النبيل والتطوعي يناسب تماما سرديات “مائة عام من الوحدة”.
نجد في المكتبة الجوالة وهي كناية عن صندوق خشبي لا يتخطّى طوله المتر ولا يتسع لأكثر من مئتي كتاب، مجموعة من الكتب الكلاسيكية وعناوين لأصوات مكرّسة وأخرى مرصودة لليافعين. وبنتيجة الهدية التي نالها للتو، بات صاحب المكتبة مورييو مُقتنعاً أن ريحاً وليدة آتية من ماكوندو ستلفّ عربته بسحر ممزوج بالواقع.
ستسمح هذه الهبة السخيّة، على نحو ما، بإعادة اختراع أميركا اللاتينية، مرة جديدة.
جريدة النهار