سعيد الشيخ *
( ثقافات )
أنا رجل ميت، قتلتني قذيفة أسقطتها طائرة أمريكية حينما كنت مدعوا في زيارة لبغداد، للمشاركة في مؤتمر ينعقد للبحث في حداثة الرواية العربية.
لم يكن بوسع الناس دفني، لأن الساعة حينئذ دقت إيذانا بالحرب وصار الكل مشغولا بنفسه طلبا للنجاة. لذلك ها انا ميت بلا قبر يأويني. انا روح تجوب الارض وكواكب والسموات السبع.
ما أذكره مما كنت، انني كاتب عربي تستوطن جسده أمراض عديدة أهمها انسداد الشرايين وضغط الدم العالي بالاضافة الى السكَّري وغيرها من الامراض العصرية. أحوالي المعيشية تظل عند الحافة، بالكاد تطعمني أو تكسيني أو توفر لي السجائر الكثيرة التي أحتاجها يوميا لاعتقادي بأنها هي التي تجعلني متحفزا للكتابة، وبسبب ضيق الحال هذا لم أرتبط بعلاقة زوجية مع إنني تجاوزت الاربعين.
شظايا القذيفة التي اخترقت جسدي لها مفعول غريب، تمنح لذة للموت والقوة للروح. وأي قوة، قوة خارقة تسري في روحي التي ما عادت لي .. لي منها الوعي بالعصر الامريكي الحديث وهو يرخي سياسة العولمة على كوكب متهالك، هذه السياسة التي تعلن بأنها تريد ان ترتقي بالكوكب الى ملكوت من الديمقراطية، للحرية فيه جنّات تجري من تحتها انهار دماء المارقين والمتخلّفين عن ركب الحضارة.
شعور روحي بالقوة قادني في بداية الامر للتسلل الى عتمات صالات دور السينما التي تعرض الافلام الاميركية، من أجل تنمية قدراتي المكتسبة ولأن ألمّ بما فاتني من تقنياتها، بيد أن في حياتي حين كان لي عقل هيّأهه لي الخالق كبشري لم أكن اشاهد افلاما امريكية وأدعو الناس في كتاباتي بأن يغمضوا عيونهم عنها حفاظا على عقولهم من لوثة عقدة التفوّق وجنون العظمة.
ولكن ها هي روحي التي خرجت من جسدي المثقوب بالشظايا قبل ان يفنى ولا يعرف له اي شاهد او أي تراب في مكان ما. قلت ها هي روحي تقودني لأقع في السحر الامريكي الذي تسكبه الافلام وما يشيعه الاعلام. صرت مأخوذا بأبطال لا يموتون أبدا، خيّرين يتسمون بالفضيلة ويؤدون مهمات انسانية عابرة للقارات لنشر العدالة، ذلك طبعا ودائما حسب منطق الثقافة الاميركية التي تتسم بقيم ومعايير لا يتفق معها كثير من البشر .
البطل الواحد يواجه جيشا كاملا ويقضي عليه. يسيطر على مدينة بل على بلاد كاملة، ويأتي بجبابرتها يخرّون ساجدين تحت أقدامه ويطلبون منه الرحمة والسماح .. مشاهد الاسطورة الاميركية تحوّل ميزة الجبن عند الارانب الى شراسة الاسود، وتحوّل النمل الى كائن يشتهي الصلصال ويفترس مدينة شاهقة بناطحات السحاب.
شاهدت “رامبو” المُنتج من قبل تعميم العولمة، بطل بكل المواصفات، هالتني عضلاته المفتولة، تحت تأثير الهالة شعرت بإنسحاق عظامي الاولى، وقد بدأت تنبت لي عظام جديدة مستنسخة من عظام رامبو ومتغذية من “همبرغر” بقري مئة بالمئة، ومسْقيّة الى حد الترع من “الكوكا كولا”، تلك التي إن سخنت صارت لها نكهة البول البشري .. كم كنت غبيا في حياتي وأنا اقاطع بكل جحود ما تمنحنا إياه امريكا من بركات التغذية. تتغذى روحي عليها الآن فأصير رامبو. والفئران التي يُقدّم لها نفس الغذاء تصير من فصيلة غوريلاّ تهرّج في سيرك.
بعد قليل من الوقت وتماشيا مع سنّة التطوّر سأكتشف ان رامبو الذي صرت طيفه ما هو الا آدمي ضئيل أمام أبطال مبرمجين، دماؤهم من زيوت السيارات ولا يحتاجون الى حمل السلاح، بل هي أيديهم تطلق النار بشكل خرافي وتحيل العدو الى رماد برمشة عين. وهي نظراتهم الغاضبة حين يرسلونها، يرسلون معها إشعاعات مدمّرة تسوّي مدن محصّنة بالارض وتحيلها الى فناء.
طيفي لم يستقر على هيئة معينة ولم يتخذ مكان إقامة بين الخرائب أو في الكهوف، أكثر ما يستهويني ان اتخذ الطير شكلا لي وأظل أجوب الفضاء.
عجينة رخوة من ذرات غريبة كنت اتشكل بما يجعل العبث ذاته ان يقعي منخطفا بمآلاتي اللامتناهية. وما أنا الا طيف مسحور، ربما طفل يرضع من أثداء امريكية … هي تلك الشظايا التي إخترقتني في بغداد.
****
مأخوذاً بإلانبهار بقاتلي صرت أتتّبع خطاه، أطير مع طائراته وأحط على بوارجه البحرية، ادخل الى مدمراته المعلومة منها والسرية … اكتشف عوالم من الرهبة، أنا الخفي بالموت كنت أصاب أمامها بهلع شديد يقتلعني من موتي، فكيف حال الاحياء الذين يسيرون بسلام في مدنهم ويمضون خلف انشغالاتهم اليومية وهم يتتوقون للحياة ، كيف ان تواجهوا مع هذه الترسانات المبيدة للمخلوقات … مع يقيني الغيبي ان المواجهة لن تحدث وجها لوجه، امريكا لا تقاتل وجها لوجه، هي ترسل شياطين الموت المعدنية المعبأة بعناصر الفناء. تعمل على الازرار .. ازرار وردية وأزرار بنفسجية … ازرار متعددة الالوان تتوهج بالبهاء الامريكي .. غبطة الجندي ان يضغط على الازرار.
أرى الجنود يظهرون سعادة عارمة حينما تأتيهم الاوامر بالتحرك لتنفيذ المهمات، يتراقصون بتهتّك كأنهم ذاهبون الى سهرة ليلة السبت، ينفلتون كالوحوش المأسورة منذ وقت طويل، وها قد فتحت لها الاقفاص لتأخذ الطريق الى الحرية بما ينتهي الى إبادة الآخرين.
الابادة الرشيدة بما تحللّه التقارير الاعلامية لمستهلكين لا يفكرون، ويتركون أمر التفكير الى مؤسساتهم الديمقراطية الواقعة تحت سيطرة رأس المال .. في أبعاد تحقيق المصلحة وتحت هستيريا التفوّق تصبح المجزرة عملية تطهير للكون من إرهابيين مارقين، والكارثة الماحقة تلك اللوحة التي يلوّنها العسكريون في “البنتاغون” كإنجاز سوريالي عظيم ينضم الى عجائب الدنيا الكثيرة التي ما عادت تحصى.
كنت بين العجائب أطير، والنجوم ترمي عليّ اشعاعات تأتلق في خلاياي بحنان له طاقة مغناطيسية أحسها تومض في عناصري المكتسبة من الموت لأظل منجذبا الى الغياب وفيه أضيء ذاتي عبر الزمن فيتدلى التاريخ.
فوق “ابو غريب” بدا لي إن الامر غريبا. مصدر إشعاعاتي يصيبها احتكاك ماسي، فتصاب نفسي بالاضطراب .. في الدهاليز المظلمة أرى مجندة تسحب خلفها ما بدا لي انه انسان يحبو خلفها وهو مربوط من عنقه بحزام صُنع من أجل الكلاب. رجال شوّه الذل معالمهم وقد جعلوهم يتشابحون وهم مقيّدون بأسلاك كهربائية والكلاب تتفلّت عليهم ، عراة مغتصبون لحثّ غبطة المجنّدات وهنّ يمنحنَ الصورة إبتسامات تفيض بالشذوذ.
حقوق الانسان، هل هي وصفة لطبخة امريكية؟ يدخل فيها لحم الانسان المطحون يضاف اليه مسحوق الكرامة الانسانية المبهّرة بكيفما تكون فظاعة الذل، وإقصاء الآخر الى آخر الظلمات … يا لها من وليمة فاخرة خُتمت بماركة مسجلة: “ميد إن يو اس إيه”.
روحي قلقة وطيفي لا يطيق.
هل حدث خطأ في فِهم العالم لرسالة الرئيس المؤمن الذي خاطب العالم بأن الله خاطبه وأمره لأن ينشر قِيَم امريكا على أجنحة الكائن الخرافي الذي سُمِّيَ بالعولمة. هل فِهْم العالم ظًل محدودا ولم يستوعب ماهية الديمقراطية. لذلك راحت امريكا تسقيه بالدم كي تنبت عرانيس الحرية … الحرية، هذا هو السؤال. كيف تستهدي البشرية اليها والسجّان الامريكي في أبي غريب وفي غوانتانامو وفي أمكنة اخرى سيئة السمعة قد أطفأ شعاع الدليل اليها، فيما هو نسي ضوءا ضئيلا ينوص على السهم الفوسفوري الذي يؤشر الى وجع الحضارة المتدرِّنة من حالة فقدان حقيقي لروح الانسان أو هي بحنين الى العصور الهمجية الأشد ظلمة.
خطأ أفراد، ستنبري الماكينة الاعلامية في التبرير كلما وقعت الاسطورة في الخطيئة. نصدق لو ان النهج ذاته لا يتكرر في أمكنة آخرى .. لو ان السلاح الفردي لا يتبختر في ظل القانون ويستبيح حياة الابرياء في المدارس والمحلات التجارية.
يتحوّل طيفي الى افغانستان بعيون أطفأها البكاء وكان بالكاد يتلمس سبيله وسط الفضاء المدلهم، ولكن بالعيون المكتسبة القادرة يستطيع ان يرى الجنود كيف يتبوّلون على جثث الموتى، الجنود إياهم دون جنود الحلفاء الذين وقعوا بمكيدة الولاء للعولمة.
الحلفاء الذين أُخترقت جدرانهم، واستبيح فضاءهم لتنفذ برامج التنصّت حتى الى غرف نومهم، ربما للاستماع الى بوح السيدة الالمانية الشاكي عن حبيب هاجرها لكثرة مشاغلها الحكومية … العالم صندوق زجاجي شفّاف للفِرجة ، وامريكا شرفة تطل على مشهد الفرجة.
امريكا تُخلْخل عقل العالم … هذا الرقي وهذه الفخامة وكل هذه الاناقة كيف تتساوى مع ممارسات دنيئة هي من طبائع الحيوان المتوحش. وهناك حيوانات صارت تأنف من هكذا ممارسات. الكلاب توصلّت الى ان تذهب الى حمّامات خاصة للتبوّل.
أين يكون هؤلاء الجنود من القيم الانسانية التي مُهرت بتواقيع الامم؟، هل يكونون بطاريات مشحونة بالكراهية؟
– ويحك ايها الطيف، ألم يصلك حديث الصناعات، والانجازات الطبية، الفيزياء والكيمياء، الارتقاء الى الفضاء، العبقرية التي تمسح وجه الكون بالخلق والابتكار، حتى تخفّيك وطيرانك هذا يتم بعِلْمنا لأنك أصبت بقذيفة ذكية. كل ما في الامر اننا لم نستطع السيطرة على عقلك. بقيت في دائرة البدائية ترى الاشياء حسب قِيَمك ومعاييرك البالية والمتخلفة … انت تجربة، لست أكثر من تجربة!
وقبل ان ينفجر طيفي في الفضاء ويتحوّل الى ذرّات دقيقة متطايرة في كل الاتجاهات تبحث عن السبيل الى التلملم في جثتي التي سأكتشف بأنها لم تكن موجودة أصلا. صاحت روحي المتألمة في البرية:
– مهما يكن، كل هذا لا يساوي دمعة طفل من هذا العالم يذرفها بسبب السياسة الاميركية!
العالم يتألم … يئن مسحوقا من حروبكم.
ليتكم تشعرون!
——————–
– من مجموعة “جنائن الهستيريا” قيد الاعداد
* كاتب وشاعر فلسطيني