«أسرار القصور» رواية أمين أرسلان الرائدة: تحكّم الرواية بالتاريخ


نبيل سليمان


بعد غياب طويل للروايات العربية الرائدة، مما صدر في القرن التاسع عشر، عادت تلك الروايات للظهور في سلسلة (تراث الرواية العربية) التي أصدرها المجلس الأعلى للثقافة في مصر. ومن تلك الروايات كان للبنان نصيبه الذي جاء في رواية خليل الخوري (وي… إذن لست بإفرنجي) ورواية سليم سركيس (القلوب المتحدة في الولايات المتحدة) ورواية أمين أرسلان (أسرار القصور).

إلى صنيع المجلس الأعلى، ولكن بدرجة أدنى، انضافت جهود أخرى في سوريا والعراق، وربما في سواهما، فنفض الغبار عن روايات رائدة، وكان لمدينة حلب منها نصيب كبير على يد فرنسيس المراش ونعمان القساطلي وميخائيل الصقال… وبذلك أعيدت كتابة فجر الرواية العربية، وتبدد الجهل بتاريخها، وهو الجهل الذي أوقع الظلم على روايات ونقود وروائيين وروائيات ونقاد.
أما رواية (أسرار القصور) فلعلها الوحيدة التي قيض لها أن تصدر في أربع طبعات خلال خمس عشرة سنة، وهو ما لم يتوفر إلا لندرة من الروايات، بعد مئة عام. وكانت الطبعة الأولى من (أسرار القصور) قد صدرت عام 1897، بينما صدرت الطبعة الرابعة في 1911. وقد علل الكاتب ذلك في مقدمته لهذه الطبعة، حيث كتب أن نشوب الحرب بين (دولتنا العلية) أي الدولة العثمانية، والدولة الإيطالية، قد دفعه إلى المساهمة في المشروع (الوطني الجليل) الذي أجمعت عليه الجالية العثمانية في الديار الأرخنتينية (الأرجنتينية)، وهو ابتناء غواصة باسم الجالية لتنضم إلى (أسطولنا). والمساهمة المأمولة هي إذن ريع الطبعة الرابعة من الرواية. ويبين أمين أرسلان أنه حاول الحصول على نسخة من طبعات روايته الثلاث السابقة، فلم يظفر إلا بعد طول التساؤل. ويستنتج من ذلك أن اهتمام القوم/ القراء بالكتاب/ الرواية كان متوالياً «مما لم يسبق له مثيل في تاريخ الروايات الشرقية على ما أظن». أما سر هذا الاهتمام ـ الرواج فيعزوه أرسلان إلى السلطان عبد الحميد، إذ ساعد على نشر الرواية «هذا الانتشار الغريب، لأنه بثّ العيون والأرصاد» وأعمل الرقابة حتى تم جمع أكثر نسخ الرواية، فنقلت إلى العاصمة (الآستانة)، وأمر السلطان بحرقها، وقيل إن ذلك كان على مشهد منه. وكما في يومنا، أثار المنع شهية لطبع الرواية رغبة بالكسب من دون علم الكاتب، مرة في مصر، ومرة في البرازيل.
أحوال وأحداث
يهدي أمين أرسلان الرواية إلى (العالم العربي) من منفاه في باريس، والذي تطاول منذ صدور الرواية عام 1897. وتبدأ الرواية باحتفالات عيد رمضان سنة 1268هـ. حيث أكثرت النساء من أكل الحلوى والتدخين. وتحدد الرواية منطلقها في بيت فقير هو لعجوزين، سيتبين أنهما فاطمة كريمة يوسف باشا المصري وعثمان باشا الحلبي، واللذين انقلب بهما الزمان، ولكن العيد أنعم عليهما بهديته، إذ رمي أمام بابهما بطفلة سيسميانها عائشة، وسيتبين أنها ابنة محمود باشا من الخادمة الشركسية الفاتنة إقبال.
وكما هو مألوف في هذا النمط من الروايات التاريخية، لا تفتأ الخيوط تتفرع وتشتبك وتتعقد بتوالي الأحداث، وباللبوس البوليسي، حيث تنشط المؤامرات والدسائس، وتتكاثر الشخصيات والوقائع، وتتفاقم الصراعات على المناصب والجاه والنساء، وصولاً إلى الصراع السياسي والفكري مما كان يمور في أحشاء السلطنة العثمانية.
على المستوى الفني تتوسل الرواية الحوار بالدرجة الأولى، كشفاً للمصالح أو المواقف أو الاصطفافات… ومن ذلك الحوار بين الخصي عليّ والسلطانة المتجبرة عليّة هانم عمة مولانا السلطان، حيث تتكشف محاولة السلطانة التخلص من الخادمة التي حملت من الباشا، وهي تهدر: «أنكون سلطانات ولنا ضرائر؟». ومن الحوار الأهم ما كان بين السلطان عبد العزيز وعالي باشا حول أوروبا. وكان السلطان قد عاد من جولة في أوروبا، فأساءه ما رأى من السعي وراء المال، ومن عري النساء، ومن الاختلاط، لينتهي إلى أن العثمانيين أكثر مدنية من الفرنسيين والإنجليز، وأنهم في غنى عن أولاء. وربما كان من أجمل مواطن الحوار في الرواية، هذا الذي دار بين صلاح الدين ياوران السلطان الذي تربى في العواصم الأوروبية، والعجوز فاطمة التي تكشف له سر عائشة، وذلك بعد ست عشرة سنة من هدية عيد رمضان. وفي هذا الحوار تنصح العجوز بطل المستقبل العاشق لعائشة بألا ينضم إلى حزب الإصلاح، حزب العائدين من أوروبا وقد امتلأت رؤوسهم بالأفكار الحرة الجديدة المستحيلة، كما ترى العجوز.
الرواية التاريخية
تقفز الرواية ست عشرة سنة، وتتوسل التلخيص في مناجزتها للتاريخ مراراً، فإذا بالسلطان عبد المجيد قد رحل، وبات رجاله المعزولون حزباً للمحافظين يعضدهم فريق من المشايخ الذين أعماهم التعصب، وتسميهم الرواية بالحزب الديني. أما السلطان الجديد عبد العزيز فحز به هو (تركيا الفتاة)، وفي عهده فتح المدارس لجميع الملل والنحل، وأبدل ملابس الرجال التركية بالزي الأوروبي الحديث، وسُرَّ دعاة الحرية والمدنية بـ «ثورة تقليدية عظيمة للمعيشة الأوروبية». وسيبلغ الزمن الروائي عهد سلطان ثالث هو عبد الحميد، ولكن بعد (الثورة السلمية) التي تطيح السلطان عبد العزيز عام 1876، وتأتي بالسلطان مراد. وكان السلطان عبد العزيز قد بلغ من العتوّ أن جابه النصح بالقول: «أنا الدولة وأنا الأمة، والحق لي وحدي في معرفة ما يوافقها».
وضع أمين أرسلان لروايته عنواناً فرعياً هو (سياسية تاريخية غرامية أدبية). أما السياسة والتاريخ فقد شغلا الكاتب في حياته وكتابته، وهو الذي رحل إلى مصر وأصدر فيها بالعربية جريدة (كشف النقاب)، كما عمل قنصلاً للدولة العثمانية في بلجيكا والأرجنتين. ومن مؤلفاته (تاريخ نابليون الأول) الذي طبع في بيروت في المطبعة الأدبية سنة 1890، واحترق في حريق هذه المطبعة في السنة نفسها. كما صدر له في القاهرة (حقوق الملل ومعاهدات الدول في الحرب) سنة 1900. وفي نهاية رواية (أسرار القصور) أثبت الكاتب ما له من (التآليف التي ستصدر عند سنوح الفرصة) وهي: الساسة والسياسة ـ ملكة تدمر أو سيرة اللادي استِر ستنهوب ـ أحمد باشا الجزار وحصار بونابرت لمدينة عكا ـ تتمة حقوق الملل ومعاهدات الدول. وقد كتب ابن الشويفات المتوفى سنة 1943، في مقدمة الطبعة الأولى من (أسرار القصور) أنه قد كثر في الشرق الميل إلى مطالعة الروايات، كما كثر المشتغلون في كتابتها بين معرّب ومصنف. لكن أكثر الكتاب مالوا إلى النوع الغرامي المحض الذي لا شيء فيه سوى الفكاهة. أما أمين أرسلان الإصلاحي في السياسة وفي اللغة، فقد اختار الرواية التاريخية قريبة العهد بالحاضر ـ زمن الكتابة، ولكن على نهج مغاير لنهج جرجي زيدان الذي كان هدفه نشر التاريخ بالوسيلة الأكثر نجاعة، أي بالرواية، وخصوصاً، كتب: «لأننا نتوخى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكماً على الرواية، لا هي عليه كما فعل بعض كتبة الإفرنج، ومنهم من جعل غرضه الأول تأليف الرواية». ولعل موقع (أسرار القصور) في الريادة الروائية العربية، قد تأكد لأن أمين أرسلان سلك هذا المسلك، حيث تكون الرواية حاكمة على التاريخ.
السفير

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *