وليمة أخبار ساخنة


*محمد الحداد


جلسوا في مطعمٍ فخمٍ أمام شاشة التلفاز مباشرة بانتظار تناول عشائهم الفاخر..طالَ انتظارهم بسبب اكتظاظ المطعم بالزبائن..اختلطت الأصواتُ مع بعضها في فوضى الزحام..المذيعُ والنادلُ وثرثراتُ الزبائن وقهقهاتهم العالية وجلبة الصحون والملاعق..فجأةً ظهرَ أسفل الشاشة شريط أحمر سرقَ أنظارَ الجميع قليلاً..عاجل عاجل…
قتلنا الجوع..إلى متى سننتظرُ أيها النادل؟ 
..قتلى وجرحى بالعشرات في انفجارين مزدوجين قويين وثمة ترقبٌ حذرٌ من احتمالِ وقوع انفجاراتٍ أخرى جديدة.. 
لحظاتٌ قليلة وستكونُ طلباتكم بين أيديكم..(صاحَ النادلُ من بعيد)
صوت المذيع يُفصّل : الإنفجاران استهدفا سوقاً كبيراً يضمُّ العديد من محالِ بيعِ الزهور..إليكم الصور المروعة الأولى كما وصلتْ مباشرة من موقع الإنفجارين.. 
(تابعَ الجميعُ الخبرَ العاجل باهتمام..) 
(وصلت الأطباقُ أخيراً..شهية وساخنة جداً وأنزلَتها يدُ النادلِ تِباعاً على الطاولة)
..تشاهدونَ الآن أعمدة الدخان التيل ما زالت تتصاعدُ عالياً نحو السماء فيما يحاولُ رجالُ الإطفاء إخمادَ ما تبقى من النيران التي اشتعلتْ في المكان في الوقتِ الذي تستمرُ فيهِ محاولاتُ المُسعفينَ بانتشالِ المزيد من الجُثث المتفحمة.. 
(رائحة الشواءِ لا تقاوَم)..
.. يبدو أنَّ بعضَ قطع الأشلاءِ الممزقة التي ترونها الآن أمامكم وهي تنتشلُ طرية من تحتِ الركام تعودُ لأطفالٍ بعُمرِ الزهور..
(قطعُ اللحمِ المتناثر فوق صحونِ الرُزّ مع أسياخِ اللحم المشوي تبدو شهية للغاية)..
..جثث كثيرة مازالت مركونة على جانب الرصيف وسط حُزمٍ ملونة متناثرة من الزهور التي اختلطت بالأشلاءِ وتشربتْ تماماً بالدماء.. والجميعُ ينتظرُ وصولَ المزيد من سياراتِ الإسعاف لنقلِ الجثث.. 
(شغلهم وصول الطعام عن متابعةِ الخبر العاجل..بدؤوا أولاً بارتشافِ حساءِ اللحم اللذيذ ثم غاصتْ أصابعهم فوراً بين الصحون في سباقِ شراهةٍ صاخب)..
..ربما صادفَ وجود هؤلاء الأطفال في المكان بينما كانوا يبتاعونَ من محلٍ مجاور قطعة حلوى أو دمية حَلموا باقتنائها..
(سرعان ما دبَّ المللُ من متابعة خبر الانفجارين على زبائن المطعم أيضاً فغابَ صوتُ المذيع من جديد وسط أصواتهم الصاخبة وقهقهاتهم العالية فرفعَ النادلُ صوتَ التلفاز قليلاً)..
..ما زالت هذهِ المناظر المروعة تصلنا مباشرة من المكان الذي نُسفَ بالكامل بفعلِ هذين الإنفجارين المزدوجين.. 
(دقائقُ قليلة كانت كافية لنسفِ الطعام كلهِ ولم يبقَ منهُ أيّ شيء لكنَّ جوعهم كان ضارياً فقرروا أن يطلبوا المزيد من الطعام..وصاح أحدهم: مزيداً من أسياخِ اللحم أيها النادل مع مقبلاتٍ جديدة وبعضِ العصائر الباردة). 
..المزيدُ والمزيدُ من الجثثِ تستخرجُ من تحت الأنقاضِ..ولا يزالُ البحث جارياً عن جثثٍ أخرى .
حاضر..(يأتي صوتُ النادلِ من بعيد) 
(بعد دقائق قليلة نزلتْ فوق الطاولة طلباتٌ جديدة ومقبلاتٌ متنوعة مع أقداحٍ ممتلئة بعصائر فاخرة).
– (تفضلوا.. بالهناءِ والشفاء.. يسعدنا رضاكم)..
من جديد..أتخمتْ بطونهم تماماً بعد أن نسفوا كلَّ الصحون ولم يتركوا أمامهم أيَّ شيء..اتكؤوا من التعب فانتبهوا أخيراً لما فاتهم من الأخبار.. سألَ أحدهم وهو يشيرُ بيدهِ نحو التلفاز ويمسّدُ بيدٍ أخرى كرشاً امتلأ للتو : ترى ما جدوى انفجارٍ كهذا؟
أجابهُ الآخر: لا أعرف..لكنَّ سوقَ الأزهار كاسدة حتماً..ربما من أجل أن ترتفعَ أسعارها في البلاد..قهقهَ الجميع..
..وعبّرَ بعضُ المواطنين لقناتنا عن مخاوفهم من وقوعِ انفجاراتٍ أخرى في المكانِ ذاتهِ خصوصاً بعد ورودِ أنباءٍ غير مؤكدة عن شكوكِ رجال الشرطة بسياراتٍ مشبوهة كانت تحومُ حول المكان قبل وقوع هذين الانفجارين لكنها ربما فرّتْ بعد ذلك إلى مكانٍ مجهول…عزاؤنا الحار لأهالي القتلى والشفاء العاجل للجرحى..كان هذا كلّ شيءٍ في ما يتعلق بخبرنا العاجل..
– طيب والمفقودون؟ (أردفَ أحدهم ممازحاً زميلهُ وهو يُخرجُ بقايا اللحم من بين أسنانهِ..)
– لا عزاءَ لهم بالتأكيد..
– لماذا؟ المفقودُ من انفجارٍ كهذا ميتٌ بلا شك..
– لا دليل دامغاً بالموتِ من دون جثثٍ صريحة..ينقصهم تأييد واضح بالوفاةِ مع شاهدين اثنين..قهقهوا من جديد..
غسلوا أيديهم ومَسحوا أفواههم وهمّوا بالخروج من بابِ المطعم فقطعَ صوتُ النادلِ ضحكاتهم الداعرة : الحساب لو سمحتم.. 
– الحسابٌ مدفوعٌ سلفاً..لا تقلق..(أجابهُ أحدهم)
– عفواً..لم أفهم..
– ألم تتابع نشرة الأخبار؟ ستسمعُ الآن الكثير من عبارات الشجب والاستنكار الغاضبة..ألا يكفي هذا؟
– كم أنتم ظرفاء..لا أقصدُ حسابَ ما يحدث هناك..تلك لعبة لسنا معنيين بها..حسابُ الطعام لو سمحتم.
– هي ذاتُ اللعبة ..لعبة اللحم والدم ..هنا أو هناك..ومن دوننا لا يكونُ لها أيّ معنى أبداً..ولا تنسَ..نزيفُ الدم لوحدهِ ليس الأسوأ..أقسى أنواع النزيف نزفُ كسرةِ خبزٍ في وطنٍ أغنى ما فيهِ هو الموت..هذهِ هي اللعبة التي لا نهاية لها.
– مجانين أنتم؟ ما شأني أنا بثرثرتكم الفارغة هذهِ؟
– اسمع أيها النادل..الموتُ هذا كائنٌ حقيقيٌّ مثلنا تماماً..بل هو أكثر المخلوقات امتلاءً بالحقيقة..أرأيتَ كم كنا جائعين قبل قليل؟ لكن بعد أن التهمنا طعامنا شبعنا واكتفينا فهل سمعتَ يوماً أنَّ موتاً شبعَ من ولائمِ موتاه؟ ليتنا التهمنا مثلهُ عشبة الخلود منذ أزلنا البعيد..هو متفرغ تماماً لالتهامنا واحداً تلوَ الآخر….هناك..في الانفجار..التهمَ وجبتهُ بشهيةٍ بكر ولم يدفع ثمنَ وجبتهِ ولم يسألهُ أحد..نحن هنا نحاولُ فقط ببلادةٍ أن نكونَ مثلهُ..التهمـنا وجبتـنا ولن ندفع أيَّ شيء..مـن حُسن حظـكَ أننـا شبعنـا بسرعة..هذا ما يميزنا عـن المـوت :الشبع
– هل تحاولون إقناعي أنَّ عشاءكم هذا دون ثمن؟
– لا شيء بلا ثمن.. لكننا نحاولُ فقط أن نـفـهمكَ أنَّ مـن الـغبـاءِ أن يـدفــعَ المـرءُ ثـمـنَ وجبةٍ واحدةٍ مرتين..لا تستغرب كثيراً..هي وليمة كبيرةٌ واحدة.. أتعرف..نحنُ ذاتنا الذين مِتنا هناك مع فارق التوقيت فقط..نحنُ الجثث المقطعة الأوصال التي رأيتها في التلفاز قبل قليل وستظلُّ تراها كلَّ يوم..دفعنا للموتِ ثمنَ أرواحنا التي التهَمها بشهيةٍ لا تشبع ! أرأيتَ المفارقة؟ المـوتُ يأكـلُ وفـوق هذا يقبضُ ثـمـنَ مـا أكـل أيضاً..أنـتَ تسمعُ دائمـاً أنَّ المـوتَ يقبـضُ أرواحَ الناس وأظنكَ فهمتَ الآن معنى ذلك.
– ادفعوا أولاً ثم اذهبوا بعد ذلك إلى الجحيم..
– سنذهبُ من دون شك..لا تقلق..كلنا سنذهبُ إلى جحيمٍ ينتظرنا منذ ملايين السنين كي ننامَ فيهِ إلى الأبد لكن ليس قبل اكتمال جحيمنا هنا أولاً.
(في تلك اللحظة كانوا جميعهم ينظرون إلى وجهِ النادل الذي أخرسهُ الذهول والعجب..بعد ذلك تلاقتْ أعينهم ففجّروا في المكانِ قهقهاتٍ داعرة كانت مكتومة في صدورهم ثم مرّوا تِباعاً من تحتِ شاشة التلفاز في طريقهم إلى خارج المطعم..)
انتهت نشرة الأخبار..انتهت وجبة العشاء…ونعدكم بالمزيد..
الحمدُ للهِ على دوامِ النعمة !
___
*الصباح

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *