من أدب الرحلات/ أيوا.. البحث عن إيقاع ما (4)


*محمود شقير

خاص ( ثقافات )

أيام متعاقبة
أعددت بعض الرسائل لإرسالها إلى الوطن.
أودعت الرسائل في مكتب البريد، ثم اتجهت أنا وكانغ وآيتي إلى معرض للفن التشكيلي في مركز المدينة. شاهدنا لوحات فنية ومنحوتات من خشب وحجر. المنحوتات الخشبية فيها طرافة: أجساد رجال عراة يحدقون بنظرات بلهاء في ما حولهم، وثمة منحوتات صغيرة لشخص واحد ولكن بتعبيرات مختلفة لوجهه. هناك منحوتة خشبية لشخص ميت داخل تابوت، له شكل الصليب، غير أن أطرافه تبدو مفصولة عن جسده. في المعرض أعمال لرسامة غرافيك: جسد امرأة أو جسد رجل في تشكيلات وأوضاع مختلفة، ذات إيحاءات عميقة.
بعد المعرض، ذهبنا إلى سوبرماركت لشراء ساعات منبهة. اشتريت ساعة بأربعة دولارات. رجعنا إلى السكن الجامعي ونحن نشعر بأننا عدنا تلاميذ صغاراً يؤوبون إلى بيوتهم بعد انتهاء اليوم المدرسي. (كانغ أكدت لي ذلك غير مرة، قالت، يتلبسها إحساس بأنها عادت طفلة صغيرة تذهب كل يوم إلى المدرسة)
لم ترن الساعة في الصباح، (سأعيدها إلى البائعة وأشتري ساعة أخرى أفضل منها) لكنني نهضت في الثامنة والربع. 
ذهبت للتسوق مع عدد من الزملاء والزميلات. ذهبنا في سيارة فورد. نتحدث الانجليزية بلكنات متباينة، ذكّرتني ببرنامج تلفزيوني كوميدي شاهدته في زمن مضى، اسمه “مدرسة اللغات”. اشتريت فواكه وخضروات ولحوماً، وزجاجة عصير.
عادت بنا سيارة الفورد إلى السكن الجامعي. تناولت بعض الفاكهة. غسلت قميصي وتركته يجف على كرسي. (لم أستخدم الغسالة الأوتوماتيكية الموجودة في مكان خاص لاستخدام الجميع، لم أفكر باستخدامها ولم أسأل نفسي عن سبب ذلك) هاتفت فندق الحجر الأسود في شيكاغو لعلني أعثر على غرفة شاغرة فيه، أخبرتني موظفة الفندق بعدم وجود غرف شاغرة. 
قبل أن أتناول طعام الغداء، قرأت مدة ساعة في كتاب للمخرج السويدي إنغمار بيرغمان. هاتفتني البروفيسورة جين، ذات الشعر المصبوغ بالأزرق، المشرفة على ورشة الترجمة، (حينما تُعرّف نفسها، تقول إنها جين ذات الشعر الأزرق)، هي شاعرة شابة، حينما تنهض للتحرك نحو مكان ما، تمضي إليه راكضة كما لو أنها لم تخلق للمشي. أخبرتني جين أن ثمة طالبة في الجامعة، تعرف العربية وكذلك العبرية، على استعداد للمشاركة معي في ورشة الترجمة، لترجمة بعض قصصي من العربية إلى الانجليزية. 
تهيأت للذهاب إلى ورشة الترجمة. وجدت ورقة تمّ قذفها من تحت الباب. إنها قصيدة كتبتها كانغ باللغة الكورية، ثم ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية لكي أتمكن من قراءتها. (عرفت فيما بعد أنها جاءت ودقت على باب غرفتي ولم أسمعها، قذفت القصيدة من تحت الباب، ثم ذهبت إلى ورشة الترجمة)
ركبت الحافلة ووصلت الجامعة في الوقت المحدد: الثانية والنصف بعد الظهر. التقيت الطالبة التي تعرف العربية والعبرية، اسمها إليزابيث، لها صوت ناعم خافت إلى حد ما، يغلف الخجل كلامها وحركاتها، ويمكن اكتشاف ذلك من اللحظة الأولى. اكتشفتُ كذلك (ما دمت معنياً بالاكتشافات إلى هذا الحد) أنها لا تعرف سوى القليل جداً من اللغة العربية، رغم أنها تلقت دروساً فيها مدة عام، غير أنها، لقلة الاستعمال، أوشكت على نسيانها. 
ذهبت بعد انتهاء وقت الورشة إلى مكتبة بريري لايتس، للقاء لانا موسى. جاءت في الوقت المحدد، جلسنا نتبادل الحديث بعض الوقت، ثم اقترحتْ أن نذهب إلى مقهى جافا هاوس. هناك وجدنا الكاتبة التركية أرنديز، والكاتب المولدافي فاسيلي ومعه الطالبة التي ستترجم له بعض كتاباته. وكذلك، الكاتبة الألمانية بياتريس (عمرها 21 سنة، نحيفة طويلة القامة، ذات جمال أخّاذ وجرأة لا تحتاج إلى اكتشاف). المقهى كبير وفيه عدد غير قليل من الزبائن، هم في الغالب من المثقفين والطلاب. ثمة امرأة ستلفت انتباهي لكثرة ترددها على هذا المقهى، في الثلاثينيات من عمرها، تتأبط دوماً كتباً وأوراقاً. سأعرف أن لديها رغبة في أن تصبح كاتبة، غير أنها لا تفلح في كتابة شيء مقنع. مع ذلك فهي لا تمل ولا تكل، ولا يصيبها اليأس بأي حال. 
شربنا شاياً، وظلت لانا موسى مصرة على مساعدتي في الترجمة. لم أقل لها إن فتاة أخرى ستضطلع بالدور نفسه، كي لا تنكسف. خمّنت أنها لن تستطيع القيام بالمهمة الموكولة إليها، وستقلع عنها بعد وقت. غادرنا المقهى، أوصلتني لانا في سيارتها إلى السكن الجامعي، أوقفت السيارة في مكان ممنوع، صعدت معي إلى الغرفة لاستلام بعض نصوصي القصصية التي رغبتْ في إلقاء نظرة أولى عليها، تأملتْ محتويات الغرفة ببراءة، اقترحتُ عليها أن أغلي لها كأساً من الميرمية، قالت إن وقتها لا يسمح بذلك، بدت قلقة على سيارتها، قدمتُ لها صحناً من الفاكهة، تناولت تفاحة، ثم غادرتني وهي تؤكد على تدبير آلة كاتبة لي للكتابة عليها. (لم أكن أتعاطى مع الكمبيوتر حتى ذلك الوقت)
لم أطق البقاء في الغرفة. غادرت السكن الجامعي من جديد لحضور ندوة في مكتبة بريري لايتس. وجدت الكاتب الفيتنامي هاي والكاتب البورمي مينت، يتأهبان للذهاب إلى المكان نفسه، ذهبنا معاً سيراً على الأقدام.
لم أشارك في الرحلة المقررة إلى البحيرة، لأنه كان يتعين عليّ أن أصحو مبكراً، فلم أفعل. كانت لانا موسى قد وجهت ليلة أمس دعوة لي على الهاتف لتناول طعام الغداء في بيتها، ثم ألغت الدعوة في الصباح بسبب انشغال طارئ لديها. (سأكتشف لاحقاً أن هذا طبع ثابت يلازمها، توجه الدعوات ولا تلتزم بالتنفيذ، وهي لا تفعل ذلك عن قصد. طبيعتها المتسرعة وبراءتها الزائدة تمليان عليها مثل هذا السلوك. وعدت بأن تعرفني إلى والديها حينما يأتيان لزيارتها، ولم تنفذ وعدها) وجدت ورقة تحت باب غرفتي. إنها من كانغ، فيها ترجمة إلى اللغة الكورية لواحدة من قصصي القصيرة جداً عنوانها “رحلة”. قرعت باب غرفتها في الثانية عشرة ظهراً، وجدتها ما زالت هناك، اتفقت معها على الذهاب إلى معرض الفنون في الساعة الثانية. 
المعرض لا يبعد كثيراً من السكن الجامعي، والطقس صيفي حار. في المعرض لوحات فنية لرسامين أمريكان ولرسامين من بلدان أخرى، فيه تماثيل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية. أعجبتني لوحات رسام وشاعر أمريكي هو: والدين كين، فيها تجريد محبب، رسمها في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، ثم يبدو أنه انتحر، إذ لم يعثر أحد على جثته.
غادرنا المبنى الكبير. كنا متعبين من كثرة التجوال في صالات المعرض. استلقيت على الحشائش الخضراء في الفسحة المحاذية للنهر طلباً لشيء من الراحة، اكتفت كانغ بالجلوس إلى جواري، كانت هادئة ينمّ كلامها عن طيبة مفرطة. ثرثرنا بما فيه الكفاية، ثم انطلقنا إلى مكتبة بريري لايتس. تركتُ كانغ تبحث عن كتاب للرحلات الداخلية في مدن أمريكا، وذهبتُ إلى محطة الحافلات. حجزتُ مقعداً للسفر إلى شيكاغو في الساعة الحادية عشرة من صباح الأحد، ثم عدت إلى المكتبة. وجدت كانغ ما زالت تبحث عن كتب، توقفت عن البحث وصعدت معي إلى المقهى التابع للمكتبة، شربنا شاياً ثم ذهبنا مسرعين إلى قاعة السينما التابعة للجامعة.
شاهدنا فيلماً يتحدث عن طفل يتصرف باعتباره بنتاً، ما أثار أعصاب أمه وأبيه. أخيراً، تركاه يتصرف على النحو الذي يريده. الفيلم ظريف وفيه مواقف مضحكة، وهو مثير للأسى، لأن المصير الإنساني هش مربك.
الحافلات لا تعمل هذا اليوم في اتجاه السكن الجامعي بسبب العطلة. تهنا في الطريق، ثم اهتدينا إليها بعد استفسارات. الشوارع هنا متشابهة، وكذلك البيوت. 
ودعت كانغ عند باب غرفتها، غير أنها طلبت مني الورقة التي ترجمتْ فيها قصتي، كي تعمل عليها أثناء غيابي. جاءت معي إلى غرفتي، قرأت لي القصة باللغة الكورية. شعرتُ بأن إيقاع الكلمات سلس، وبدت كما لو أنها تقرأ شعراً. أخذت الورقة وغادرتْ غرفتي بعد دقائق.
تمددت على السرير أتابع برنامجاً يبثه التلفاز عن التعذيب في بلدان العالم الثالث، غفوت أثناء ذلك. نهضت من غفوتي في حوالي الواحدة بعد منتصف الليل. هيأت حقيبتي للسفر، ثم حاولت النوم من جديد.
يتبع
________

*روائي وقاص من فلسطين 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *