*د. فتحي المسكيني
ما هي «التفاصيل»؟ هل هي شذرات بلغ بها الصغر أن تحوّلت إلى غيمة مبهمة من الإشارات إلى غائب فقد ملامحه وتلفّت عنّا بلا رجعة؟ أم هي دوائر من المعنى بلغت من التعقيد ومن الضخامة أن صار كلّ كلام عنها رجماً بالغيب وحديثاً معمّى، بحيث أصبح السكوت عنها هو الشكل الوحيد من إنقاذ العلاقة معها؟ هل التفاصيل ما لا نراه لدقّته؟ أم هي ما لا يمكننا أن نحيط به لعظمته؟
ما أكثر تفاصيل الشخص المعاصر: كلّ جزء من حياته اليومية تفصيلة تحتاج إلى توضيح خاص. إنّه هووي إلى حدّ الندم. ومع ذلك هو يحرص على تفاصيله. وكل ركن من جسده أو من بيته أو من حياته الخاصة هو تفصيلة أو حزمة من التفاصيل التي لا يقبل التفاوض حولها. يقول فولتير في بعض رسائله: «يا لشقاء التفاصيل، إنّ العصر اللاحق يهملها كلّها». ربّما كان شقاء التفاصيل هو الثروة الوحيدة التي يملكها فرد أو شعب ما. هل ثمّة ذاكرة قوية أو في صحة زمانية جيّدة من دون قدر كاف من التفاصيل؟
تأريخ
حين نؤرّخ لمفهوم «التفاصيل» نجده قد عرف مع الأزمنة الحديثة تحوّلا مربكاً، ولكن لا يخلو من طرافة: كانت التفاصيل مقدّسة، كانت جزء لا يتجزّأ من القصص المقدّس لجماعة روحية معيّنة. وكلّ «إله» يحرص على ترتيب تفاصيل المؤمنين به. كلّ قبيلة وتفاصيلها، وكلّ طائفة وطريقتها في سرد التفاصيل المؤسّسة لنموذج عيشها في العالم الخاص بها. وكلّما كانت التفاصيل أصلية وأولى وبدائية، كانت سلطتها أكثر قوة وأوسع مهابة وجلالة. وعلينا أن نسأل: لماذا نشعر بأنّ جميع الأديان تقصّ التفاصيل نفسها؟ ربما كانت الإنسانية مجموعة مختارة من التفاصيل، بعد أن تمّ حرق جميع القصص التأسيسية الأخرى المنافسة؟
ليس صحيحاً أنّ الإله التقليدي «لا يدخل في التفاصيل»، كما أشار إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي المعاصر فلادمير يانكلفيتش في كتابه «الموت»، معلّلاً ذلك بأنّه «يترك التفاصيل للمخلوقات، حتى تجد الحرية النصفيّة للإنسان مجالا لكي تعمل». كأنّ تدخّل الآلهة في التفاصيل سوف يحرم الحرية الإنسانية- وهي «نصف حرية» فقط- من فرصتها الميتافيزيقية لكي تعمل. تبدو الحرية بمثابة نصف التفاصيل. أمّا النصف الآخر، فهو القدر، أو أيّ إرادة أخرى. ولكن علينا أن نسأل: هل يمكن للإنسان أن يكون حرّاً، وهو لا يملك من ذاته إلاّ التفاصيل؟ لأنّ إرادة أخرى قد حجبت عنه قدره؟ ولكن هل ثمّة كمال بلا تفاصيل؟
يقول ليونار دا فنشي: «إنّ التفاصيل هي التي تصنع الكمال. لكنّ الكمال ليس تفصيلة من التفاصيل». – ما ينبغي أن نضيفه إلى أنفسنا أو إلى حياتنا أو إلى رؤيتنا للعالم لا يمكن أن يكون مجرد تفاصيل. مع الحداثة نزل الكمال إلى التفاصيل، ودخل في تفاوض جماليّ مرير معها.
لكنّ الأزمنة الحديثة قد غيّرت من طبيعة التفاصيل: لقد تمّ اكتشاف ما سمّاه الفيلسوف الكندي المعاصر تشارلز تايلور دائرة «الحياة العادية». فقدت التفاصيل نسبها الميتافيزيقي واكتسبت ملامح شخصية مثيرة. كلّ شخص أصبحت له تفاصيله الخاصة، في إطار حياة يومية بلا تفاصيل خاصة. كلّ «فرد» هو فامل أخلاقي يعمل لصالحه الخاص، وينتج القدر المطلوب من التفاصيل التي تجعل استمرار حياته الخاصة أمراً متاحاً. إنّ «العادي» لم يعد مبتذلاً. بل تمّ الانتقال بشكل برنامجي من تفاصيل الجماعة إلى تفاصيل المجتمع. – نحن لم نعد نوجد من خلال قصة تأسيسية، بل من خلال حياة عادية. بل إنّ التأسيسي قد انسحب وترك مكانه شاغراً، يمكن لأيّ قصة تاريخية عابرة أن تعبره أو تسكنه سكناً مؤقتاً وخفيفاً.
لكنّ العادي يمكن أن يصبح تاريخيّاً بشكل مروّع. ولا أحد يمكنه أن يزعم أنّ تفاصيل حياته ليس بوجه من الوجوه جزءاً مريباً ومرعباً من تفاصيل شعب أو مجموعة من الشعوب التي ينتمي إليها ويتمثّل ذاته العميقة من خلالها حصراً. إنّ أفق أنفسنا هو عاديّ، إلاّ أنّه ليس ملكاً لنا. إنّه بوّابة التاريخ المعاصر إلى أجسادنا الخاصة. من أجل ذلك ابتدعت الحداثة خطّة طريفة لحماية التفاصيل من التاريخ: اخترعت الحياة الخاصة. «الحياة الخاصة» هي دائرة التفاصيل التي تركتها الدولة الحديثة عمداً فارغة من أجل تربية الشخص الحديث بشكل غير مباشر كنبتة أخلاقية حرة، أي في شكل «فردية» مدنية، تمّ في الأثناء تغيير هويتها، على نحو ينقلها من «الرعية» (المقيّدة سلفاً بتفاصيل الجماعة أو الطائفة) إلى «المواطنة» (ذات التفاصيل المستقلة أخلاقياً للإيمان الشخصي). صار على الفرد الحديث أن يخترع تفاصيله الشخصية: انتقل من «مخلوق» جاهز التفاصيل (قصة الجماعة) إلى «ذات» مبدعة للتفاصيل (تفاصيل الحياة الخاصة). وقد صدق بودلير حين رأى أنّ الحداثة في عمقها موقف جمالي أو فني.
يقول شارلي شابلن: «يوجد في الأعمال الفنية من الوقائع ومن التفاصيل التاريخية أكثر ممّا يوجد في كتب التاريخ». – هذا وجه المفارقة: ما نتخيّله أكثر واقعيّة ممّا نظنّ أنّه يحدث لنا. ولذلك كثيراً ما بدا الإنسان الحديث عبارة عن «ممثّل»: تبدو حياته بمثابة مسرحية أمام جمهور متفرج. من كانط إلى سارتر، ظلّت الذات الحديثة عبارة عن «متفرج» نسقي. ويبدو أنّ هذا الوضع الأخلاقي المخصوص ناتج عن التصوّر الحديث للإنسان بوصفه «ذاتا»، وليس نفساً مخلوقة.
يقول فلوبير: «أن نعطي الجمهور تفاصيل عن أنفسنا، هو إغراء خاص بالفرد البورجوازي كثيراً ما قاومته».
تحتاج التفاصيل على الدوام إلى متفرّج أساسي أو إلى جمهور. وكلّ من يبني حياته أو نموذج عيشه على العناية بالتفاصيل هو يتصرّف باعتباره في أعماق نفسه فرجة أو عملاً فنّياً. نعني: حيواناً أو كائناً «مرآويّاً». إنّ بين التفاصيل والمرايا صلة سابقة إلى القلب. تحتاج التفاصيل إلى أن تُرى. تحتاج إلى مرآة. وكلّ من يجرّنا إلى تفاصيله يجرّنا إلى مرآته، ومن ثمّ يحوّلنا إلى رسوم أو ظلال، أي يستهلكنا، باعتبارها مرئيّات فحسب. ذلك أنّ بعض الناس هم تفاصيل في حياة أناس آخرين. وقد لا يعلمون. بعض الناس مجرّد أحداث أو أخبار زائفة في تاريخ أناس آخرين.
تبايناتكان القدماء يمحون رعب التفاصيل بصمت المقدّس، ثمّ صاروا ينتصرون عليها بوعود التقدّم، ثمّ باتوا اليوم يستثمرون التفاصيل في خطط النجاعة. لا يحتاج المقدّس إلى تفاصيل، بل إلى طقوس، ولا يعوّل التقدّم على التفاصيل، بل على الحياة العادية، ولا تقوم النجاعة على التفاصيل، بل على المنظومات. ومن هنا، يمكننا تصنيف الحضارات بمدى قدرتها على ضبط سياسة مناسبة للتفاصيل التي أسّست عليها عالمها المعيش: أن تكون تفاصيل طقوسية أو تفاصيل ذاتية أو تفاصيل افتراضية. نحن لا نعيش التفاصيل نفسها في حضارتين مختلفتين، حتى ولو تعلق الأمر بالموضوعات نفسها: لكلّ جسد تفاصيله، حسب الحضارة التي ينتمي إليها أو العالم المعيش الذي يرتاده.
وعلى الرغم من أنّ جميع اللغات تقريباً تمتلك صيغاً متباينة للإشارة إلى «التفاصيل»، فهي على الأغلب تعني الشيء نفسه أو تشير بشكل متلعثم إلى بُعد واحد. بعض اللغات تكتفي بنقاط التعليق (…). لكنّ الفرنسية مثلاً تثبت معنى «وكلّ الأشياء الباقية»، والإنجليزية تقول شيئاً قريباً من «وهكذا قُدماً»، والألمانية أمراً من مثل «وهكذا على نحو أوسع». التفاصيل هي الأشياء «الباقية»، «القادمة»، «الأوسع نطاقاً». تجتمع هذه الصيغ وغيرها على معنى واحد أو بُعد واحد: إنّه التالي أو المستقبل. ولا يهمّ إن كان الكلام في صيغة الماضي. بعض تفاصيل الماضي تملك مستقبلها.
وما نقصده هو الفكرة التالية: ما يهدّد التفاصيل دائماً هو اختراع بُعدٍ يتخطّاها. ومن ثمّ يستغني عنها. وأفضل مثال يُضرَب عادة هو السياسي. إنّ السياسي لا تهمّه التفاصيل، فكل تفاصيل إنّما تعود بنا إلى دائرة الحياة الخاصة. ما يؤرقه دوما هو اختراع أكثر ما يمكن من «العمومي» وتحويله إلى تفصيلة ضخمة لليومي. ولا يختلف في ذلك صناّع الدول أو متمرّدو الثورات. تقول روزا لوكسمبورغ: «لا مجال في الحقيقة لأن نتلوّى من الألم أو للتحمّس حول التفاصيل والجوانب الثانوية، حين تكون الأمور جارية نحو الاتجاه الصحيح». تتنافى التفاصيل مع عقلية النجاح: الناجحون لا تفاصيل لهم. وحده الاتجاه الصحيح يمكن أن يشبع نهم السياسي إزاء الآتي.
من أجل ذلك، تكبر أهمّية التفاصيل حين نفتقد إلى أفق واحد لأنفسنا. حين لا يكون هناك معنى جامع لحياتنا، تصبح تفصيلة واحدة خطراً علينا. قد تتفاوض الدول حول تفاصيل لا يرى المواطن العادي أيّ أهمّية لها. إنّ تفاصيل السلطة لا ترانا. وكثيراً ما يعجب الإنسان العادي من كثرة تفاصيل الحياة الرسمية للدولة. يُطلق اسم «المراسم» على تقنيات التفاصيل الرسمية للدولة في كل زمان. تحتوي المراسم سهواً على رسم حدود وتكريس رسميّة ما وإرساء «مرسم» لتصوير وجه السلطة. الدولة تفاصيل: حدود مرسومة لشكل الحكم وزيّ رسميّ للحكّام ورسم بالألوان لوجه السلطة.
كلّ ما نعطيه تفاصيل يصبح له وجه. كلّ تقنيات الأدب منذ القرن التاسع عشر هو أدب التفاصيل. ثمّة سياسة تفاصيل تميّز كاتباً كبيراً عن آخر. تتغيّر طبيعة التفاصيل: قد تكون تاريخية أو دينية أو أو قومية أو مرضية أو وجودية أو من الخيال العلمي. لكنّ ما هو حاسم في كل مرة هو اقترابنا من حميمية التفاصيل، حيث لا معنى لأيّ بلاغة أو عبرة أخلاقية أو حسّ بالانتماء أو خطة بنيوية. والأخطر هنا هو أنّ بعض الشعوب قد تغيّر من تفاصيلها العميقة دون أن يتفطّن إلى ذلك حتى أكبر مبدعيها. ليس الأدب غير صيد التفاصيل التي تُكرَّس بعد. لأنّ كلّ ما يُكرَّس في شكل حياة أو في نموذج عيش ما، يتكلّس، وينقلب إلى عبء انفعالي أو سردي على الأحياء.
التفاصيل الخطيرة هي تلك التي لا تُنسى. ليس لأنّها صارت شيئاً «عامّاً». قال برغسون ذات مرة: «كلّ ما هو عامّ هو فارغ». كلّ عمومية هي آلية تفاصيل لا وجود لها. وبعض الناس لا يملكون إلاّ عموميات مناسبة بلا تفاصيل. قال نيتشه في «جنيالوجيا الأخلاق»: «ربّما لم يكن ثمّة شيء أكثر إخافة وإيحاشاً في ما قبل التاريخ الإنساني برمّته، من تقنية الذاكرة: يَسِمُ المرءُ شيئا، حتى يبقى محفوراً في الذاكرة: فوحده ما لا يكفّ عن إيلامنا، يظلّ في الذاكرة».
*يا لشقاء التفاصيل، إنّ العصر اللاحق يهملها كلّها.
فولتير
*إنّ التفاصيل هي التي تصنع الكمال. لكنّ الكمال ليس تفصيلة من التفاصيل.
ليونار دافنشي
*يوجد في الأعمال الفنية من الوقائع ومن التفاصيل التاريخية أكثر ممّا يوجد في كتب التاريخ.
شارلي شابلن
*أن نعطي الجمهور تفاصيل عن أنفسنا، هو إغراء خاص بالفرد البورجوازي كثيراً ما قاومته.
فلوبير
*لا مجال في الحقيقة لأن نتلوّى من الألم أو للتحمّس حول التفاصيل والجوانب الثانوية، حين تكون الأمور جارية نحو الاتجاه الصحيح.
روزا لوكسمبورغ
*ربّما لم يكن ثمّة شيء أكثر إخافة وإيحاشاً في ما قبل التاريخ الإنساني برمّته، من تقنية الذاكرة: يَسِمُ المرءُ شيئا، حتى يبقى محفوراً في الذاكرة: فوحده ما لا يكفّ عن إيلامنا، يظلّ في الذاكرة.
نيتشه
________
*الاتحاد الثقافي