قراءة الـ »أنا» في وعي الآخر


*محمد الأسعد


يذهب عبدالله العروي إلى أن وراء كل شخصية نهضوية من الشخصيات التي عرفتها الإيديولوجية العربية كائناً يوحي ويهمس في أذنها، فما تنطق إلّا عن هواه، وسواء كان رجل النهضة شيخاً أو ليبرالياً أو تقنياً، فهذا الكائن الموحي والهامس باحث غربي بالضرورة، ولهذا ظل التفكير العربي على لسان هذه النماذج الثلاثة قراءة للأنا في وعي الآخر، وبتوسط منه، رغم تفاوت الطور التاريخي واختلاف الإشكاليات. بعبارة أوضح، لم تستطع هذه النماذج المتوالية على الحياة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهي تنتج فكراً وإيديولوجية المجتمع العربي، اكتشاف ما يؤسس وجودها خارج نسبتها لتاريخ الفكر الغربي.
يمكن أن نسحب هذه الملحوظة على بعض التجارب الشعرية الحديثة، مع توسط شخص ثالث بين الموحي والموحى إليه تمثله شخصية الناقد.
عندما يحاول شاعر عربي تخطّي ميلاده البيولوجي الأول إلى ميلاده الرؤيوي، أي حيثما حاول تأسيس وجوده خارج ما هو مقول ومعطى سلفاً في التجربة الشعرية الموروثة، اصطدم بشبكة من القيم النقدية الحديثة تلفه، شاء أم أبى، وتهبه الاتجاه والمعنى، وستكون النتيجة باعثة على التأمل لا على الشجب والإدانة، لأن هذا الاصطدام وهذا الفشل في تأسيس الكينونة ليس إلّا عنصراً في إشكالية مستمرة ومتواصلة وتحتاج إلى فهم وإيضاح قبل كل شيء.
لفهم هذا، لابد من ملاحظة المناخ الذي اتضحت فيه أبعاد هذه الإشكالية؛ خمسينات القرن الماضي، في هذا المناخ تراجع التيار التقليدي على كل مستوى، مستوى النظام الحزبي الشكلي الذي ألغته الثورات والانقلابات، ومستوى الصحافة الأدبية حين بدأت تموت أبرز المنابر التقليدية، وترتفع الأصوات معلنة الضيق بتحكم تيار العمداء والعصاميين الذي قاده أشخاص مثل العقاد والمازني وطه حسين، وكتب في ظلاله شعراء «الوجدان» الذين أطلقت عليهم الرومانسيين.
وفي هذا المناخ العام بالذات، بزغ وعي جيل جديد يرفض التقليدية والرومانسية على حد سواء، الأولى بسبب جمودها وتحجر أبنيتها الفكرية والأدبية الخاوية، والثانية بسبب الروح المريضة التي أشاعتها في الجسد العربي وهو يقف على أعتاب تحولات عربية ودولية. وفي الخمسينات أيضاً، بدأ محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس جدلاً واسعاً ومحرجاً حول أسس الثقافة الأدبية في مصر طوال نصف قرن، بالاتساق مع جدل واسع حول الموضوعات ذاتها في عواصم عربية أخرى مثل بيروت وبغداد.
وباختصار، بدأ وضع مشكلات الثقافة في إطار جديد تماماً، سواء من حيث مناهج البحث أو من حيث المفاهيم المتداولة، وبدت الأطروحات التقليدية في هذا الضوء غير مقنعة في جدلها حول علاقات الأدب والفن بالمجتمع والفرد والتاريخ، وفي جدلها حول مفاهيم محدّدة مثل الموضوعية والذاتية ووحدة العمل الفني.
وظهر تعريف طه حسين للأدب بأنه «طرفة هدفها الترويح عن الناس»، تعريفاً عابثاً غير جاد أمام جيل يحسّ بهبوب الرياح التاريخية بعد نكبة فلسطين وظهور قوة الشعوب المستعمرة على مسرح التاريخ.
العبث واللاجدية كانا تتويجاً لنصف قرن من الإنتاج الثقافي، وتتويجاً لنصف قرن من القمع المتواصل للفكر العربي واليد العربية على يد المحتل الغربي على امتداد الخريطة العربية. 
كان الطموح والمستقبل موضع رهان المجدّدين، وما حدث في أواخر الأربعينات، وفي خضم الصراعات السياسية والاجتماعية، كان استكمالاً لتجديدات القصيدة على مستوى أعمق مما وصل إليه مطران خليل مطران وميخائيل نعيمة وأبوشبكة وأبوشادي وباكثير وأبوحديد. لم يكن التحديث طارئاً إلّا على مستوى الإمساك بمفاتيح الحاضر، ذلك الذي ظل وقفاً على أقطاب التقليدية المحدثة التي اغتنت بإنجازات التحديث حيثما ظلت بعيدة عن المساس بقاعدة رؤيتها الشاملة للوجود، ولكنها بدأت حرباً شرسة ضد رؤية جديدة بدأت تبزغ في سماء المنطقة العربية، ألا وهي الرؤية الواقعية.
ولكن النماذج التي حفلت بها الخمسينات تشير إلى أن القطيعة لم تكن كاملة، وهو ما يفترضه البديل الجديد، بل كان هناك اختلاط في مفهوم الحداثة إلى درجة شائكة. والسبب هو أن هذه الفترة شهدت تبلور عدة إيديولوجيات دفعة واحدة؛ القومية والماركسية والإقليمية، وشكلت هذه الأطياف منابع رؤية عدد كبير من شعراء الحداثة.
كان الامتحان رهيباً أمام شاعر الحداثة في تطلعه من جهة إلى تأسيس وجوده في أفق الحرية الجديدة، وفي إحساسه من جهة أخرى بالخسارة الفادحة التي يتعرض لها حين تغلق أمامه أبواب الحاضر.
لم يكن الطريق أمامه إلّا تسليم أوراق اعتماده إلى أحد «الأعمدة» أو البقاء على الرصيف بوجود مؤجل حتى مجيء فجره النائي، ولكن حقل التنازع لم يبق هكذا بين طرفين إلّا لفترة قصيرة، وسرعان ما دخلت المؤسسات الأمريكية وبدأت نشاطها لتنقذ شاعر الحداثة من سيطرة التقليدية، وتفتح أمامه أبواباً لم يكن يحلم بها (مجلات تنشر نتاجه، ونقاد لتسويقه، ومؤتمرات دولية يدعى إليها، ودور للترجمة.. إلخ).
كانت هذه المؤسسات تنقذه من سطوة التقليدية، ولكنها من جانب آخر كانت تجيّر نتاجه ونشاطه الفكري وشهرته لحساباتها الخاصة. ولا يبتعد ما نشهده حالياً من تدخلات غربية تقترح علينا بجوائزها ودعواتها وتمويلاتها ماذا نقرأ وأين نسكن وماذا نشاهد.. عما شهدته تلك السنوات. 
ونستطيع الآن تمييز أهم التيارات التي لعبت دوراً كبيراً في تطوير ورسم مصير الشعر العربي الحديث، ومنحه علامات كينونته الراهنة. 
الأول، تيار التقليدية المحدثة التي اغتنت ببعض أطروحات الرومانسية الإنكليزية والفرنسية. واستمد هذا التيار رؤاه من مقولات الإنكليزي كولرج ووردز ورث كما ظهرت في ترجمات عبدالرحمن شكري وعباس محمود العقاد. واستغل المازني نتاجاتها الشعرية، فنشر بعضها منظوماً باسمه، يضاف إلى هذا، أن الرمزية حسب شعراء مثل فاليري كانت تأخذ طريقها إلى تنظيرات سعيد عقل وإلياس أبوشبكة وشعراء آخرين في لبنان، ومحور هذه الأطروحات الرومانسية والرمزية هو أن التجربة الشعرية تعبير عن الذات الشاعرة.
بدأ هذا التيار بالظهور على قاعدة النضال لاحتلال مكان إلى جانب الأرستقراطية عثمانية الأصل، فكان نقداً للتقليدية، وأقطابها آنذاك شوقي وحافظ، إلّا أن هذه الأخيرة سرعان ما امتصته وهضمته وصار ابناً شرعياً لها ترعاه، وسبب هذا الامتصاص والهضم، هو أن الهوامش الفاصلة بين الشرائح الطبقية القديمة والشرائح الجديدة كانت ضيقة إيديولوجياً واجتماعياً. فالأولى كانت الحليف المبكر للاحتلال الغربي، وكانت الثانية نتاج حاجته إلى موظفين في إدارات الدولة المستقلة شكلياً، لهذا السبب أطلقنا على هذا التيار اسم التقليدية المحدثة. 
الثاني، تيار الواقعية الذي استمد رؤيته من إحساس الشاعر بالسقوط والانحطاط السياسي والاجتماعي، ومن طموحه إلى تجاوز هذا السقوط والانحطاط بالنضال الفردي/الاجتماعي. وتشكل هذا التيار على قاعدة تجربة المجتمعات العربية المأساوية مع الاحتلال الغربي، ورفدته عدة روافد فكرية منذ الثلاثينات، أبرزها القومي والماركسي. وشواهد هذا التيار البارزة هي، محمود البريكان والسياب والبياتي وكاظم جواد وسليمان العيسى ويوسف الخطيب.
الثالث، تيار التغريب، وهو تيار يمت بصلة نسب إلى القاعدة الإيديولوجية للنزعة الإقليمية في عدة أقطار عربية، خاصة في مصر ولبنان، وهي إقليمية كانت تتقنع بخصوصيات محلية مفتعلة لإخفاء روابط التبعية بالدول المستعمرة، ولا يمتلك هذا التيار جذوراً في الثقافة الشعرية أبعد من الأربعينات، ويمكن اعتبار كتاب «بلوتولاند وقصائد أخرى» للويس عوض فاتحة هذا التيار في رفضه للشعر العربي جملة وتفصيلاً، سواء كان تقليدياً أو واقعياً، ومحاولته تأسيس شعر جديد على قاعدة مفاهيم عامة مثل «تجربة العصر» و«قضايا العصر». 
يقوم مفهوم التجربة الشعرية لدى هذا التيار على مصادرات أولى؛ منها أن التجربة الإنسانية واحدة، وأن الشعر تعبير عن القضايا الكبرى التي تهم الإنسان في كل مكان وزمان، وأن الإشكالية العربية هي في اللحاق أو عدم اللحاق بالغرب النموذج، وتنفي هذه المصادرات خصوصيات التجربة بوصفها نشاطاً اجتماعياً، وتنظر إلى الغرب الجديد (الأمريكي تحديداً) كصاحب رسالة تنوير وتحضير، أما القضايا الكبرى الجديرة بالحياة فهي الخيبة الإنسانية الأزلية. 
من هذه المصادرات ولدت حركة نقدية في عدة أماكن عربية، متفقة في المنطلق ومختلفة بأسماء رسل الإيحاء والهمس أو المراجع الفكرية، وشهدت الساحة العربية ترويجاً لنقاد ذوي ثقافة إنكليزية وفرنسية طوال ثلاثين عاماً من أمثال جبرا إبراهيم جبرا ولويس عوض ويوسف الخال وأسماء أقل أهمية.
وأخذت هذه الأسماء على عاتقها إعادة قراءة وتفسير الإشكالية العربية الراهنة مستعينة بعناصر مستمدة من الثقافة الغربية جعلتها قواعد قيِمة ووجود لأي شاعر حديث؛ التصوف والأسطورة وقلق الحضارة.. إلخ، أي كل ما هو مفارق للتجربة التاريخية الإنسانية للمجتمعات العربية، وإذا استثنينا التيار التقليدي الذي ما عاد يستجيب لأي شوق لدى الشاعر الحديث، وإذا استثنينا التيار الواقعي الذي لم يمتلك مؤسسات قادرة على تجذيره، وجدنا بين أيدينا تيار التغريب الذي أصبح يجتذب أعداداً كبيرة من الشعراء.
وعلى إيقاع هذا التيار وتمثيلاته للمعاناة الإنسانية المجردة، وهي أطروحات توفر على أصحابها متاعب المواجهة مع كل ما هو قائم، أخذ الشعراء يقرأون وينتجون ويتوالدون توالداً لافتاً للنظر طوال الستينات والسبعينات..، وصولاً إلى الآن. في هذا المناخ، نشأ وعي الشعراء الحديثين، حاملاً معه الطموح والإحباط، والعافية والتشويه، معرّضاً لضغوط هائلة من قوى تمتلك المؤسسة وحق إعطاء شهادة الميلاد والكينونة. وعكست هذه المعاناة واحداً من أبرز الثوابت في بنية الوعي الأدبي الراهن، ثابت التشويه النووي، ذلك الذي يتعلق بالتدخل الثقافي لتكوين «المورّثات» الجينية في نواة الخلية الثقافية، الذي مازال يفعل فعله بطرق خفية حيناً، ومعلنة في أحيان أخرى.
_____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *