* يوسف ضمرة
مرة جديدة نتطرق إلى ما سمي بتداخل الأجناس، وهو الذي شاع قبل نحو عقدين ثم خمدت جذوته. وهذا الخمود عائد إلى صعود قصيدة النثر والقصة القصيرة جداً. فقد أثرت كلّ منهما في الأخرى، وصار تداخل الأجناس ـ ولو جزئياً أو شكلياً ـ أمراً واقعاً. ولكن، هل حقاً هذا هو تداخل الأجناس الذي كان مقصوداً من قبل؟
ومن دون أي تردد نقول إن تداخل الأجناس كان قائماً منذ ظهور الأدب، وإن في أشكال عدة وصور متنوعة. فقد كانت الرواية ولاتزال تحوي طقساً مسرحيا، وتميل إلى الشعر أحيانا، كما تفعل القصة القصيرة وكما يفعل المسرح الذي يغرف من الأجناس الأدبية والفنون التشكيلية والسمعية كالموسيقى والغناء. ولكن ما كانت الدعوة تنطوي عليه، كان يحمل في طياته دعوة لهدم الأجناس الأدبية.. التخلص من حدود «وهمية» للجنس الأدبي كالقصة والقصيدة والرواية والمقال.
ودعاة هذه النغمة تستند إلى مقولة صحيحة في جوهرها، وهي أن الأدب بلا قوانين تقيده، وأن القوانين اختراع بشري لاحق للجنس الأدبي، كما هي الحال مع التفعيلة في الشعر الحر، ووحدة البيت في الشعر العمودي. فقد علمنا أن الخليل بن أحمد استنبط بحور الشعر والتفعيلات الشعرية بعد إبداع القصائد لا قبله. ومثل هذه المقولة قد ترتد سلباً على قائلها، حيث إن الشاعر العربي الذي كتب من دون قوانين صارمة، لم يتمكن من الخروج على البحور والتفعيلات التي تم استنباطها من الشعر. وعلى الرغم من ذلك، فقد تمكن الشعراء لاحقا من الخروج من عباءة وحدة البيت والقافية، وكتبوا شعرا جديدا قائما على التفعيلة، لكنه متحرر من وحدة البيت، ومن بنية القصيدة التقليدية، الأمر الذي جعل هذا الشعر قادراً على حمل موضوعات وأفكار ومفاهيم لم يكن الشعر التقليدي ليعبأ بها من قبل، ما يعني أن تحطيم الشكل السائد متزامن بالضرورة مع الخروج على المقولات والمفاهيم السائدة. فلم يعد الرثاء في القصيدة التقليدية هو الرثاء نفسه في القصيدة الحديثة. ولنقارن بين مراثي محمود درويش والمراثي التقليدية مثلاً.
هذا يعني أن الجنس الأدبي يحمل في داخله بذرة تطوره، من دون محاولات خارجية لتحطيمه أو لمحوه كجنس مستقل. فالقصة التي كتبها تيمور تغيرت وتطورت وأصبحت اليوم قصة مغايرة في البنية والتكنيك والمحمولات، لكن هنالك ثابتاً وحيداً لم يتغير ولم يتم التخلص منه، وهو الحكاية. الذي تغير هو لغة السرد والبنية الفنية وطرائق السرد وأسلوب تناول الحكاية. لم تعد ثمة ضرورة لبداية وعقدة وخاتمة.. أعني لم يعد ثمة خط بياني يشبه تقسيم القصيدة الجاهلية إلى الوقوف على الأطلال والفخر والغزل.. إلخ. صار في استطاعة القاص أن يبدأ من حيث شاء ومن حيث تطلبت الضرورة الفنية التي تفرضها الشخصيات والحكاية والمفاهيم والأفكار والقيم والتكثيف اللغوي. ومع هذا وذاك، أصبحت لدينا كتابة مفتوحة خارج الأجناس المتعارف عليها، وقد أسماها البعض«نصاً» والآخر «نصاً مفتوحاً» والثالث «كتابات»، وما إلى ذلك. وهي كلها كتابات نعثر فيها على المقالة والقصة والشعر حيناً، وربما ذهب البعض أبعد من ذلك، فلا بأس.
خلاصة القول إن الأجناس قادرة على تطوير نفسها، وإن الكتابة قادرة على تخليق أشكال أخرى لم تكن موجودة من قبل. وهذا كله لا يحتاج إلا كاتباً مبدعاً وخلاقاً فقط.
_______
*(الإمارات اليوم)