أحلام فترة النقاهة.. هدية محفوظ البديعة


سامح سامي
نجيب محفوظ المبدع دائما، يكون سببا للبهجة، كاتب غير مسبوق، وإنسان استثنائى، وموظف مثالى، حتى وهو يبدع، كان يلتزم بالكتابة بشكل مدهش، فهو دائم القول: «أحيانا أنتهى من قصة قصيرة، وأحيانا أخرى أجلس الساعات الثلاث والقلم فى يدى ولا أكتب كلمة واحدة، والموقف يتكرر كثيرا، لكننى لا أبرح مكاني، فأنا موظف مهنتي الكتابة مثل أي موظف فى مكان عمله لا يستطيع مغادرته سواء كان هناك عمل أم لا. وحي الكتابة أصبح يعرف مواعيدى، وأنني أنتظره فى هذه الأوقات، فهل يصح أن يأتي ولا يجدني؟».

نجيب محفوظ المبدع نائما فى «أحلام فترة النقاهة»، والتى تقف كأيقونة فى أعماله الأدبية المهمة، والتي تتميز بالتكثيف الصوفي والعمق الروحانى الذى ساد كتابات محفوظ الأخيرة. تلك الأحلام كنز محفوظ الأدبى الذى يظهر كاملا فى كتاب جديد تستعد دار الشروق لنشره قريبا.

بعد صدور «أحلام فترة النقاهة» الجزء الأول عن دار الشروق، سأله كثيرون: «هل هذه الأحلام هروبا من الواقع؟» فكان يرد ساخرا: «وهو فيه واقع؟»، وسئل: «هل تؤلف الأحلام؟» فقال: «لا. لم أؤلف أى حلم.. هذه أحلامي ولكن بعد تحويرها، حينما (أنام وأصحى) من غير حلم أعتبرها ليلة ضاعت!».

وتعليقا على تلك الأحلام، قال الطبيب النفسانى يحيى الرخاوي: «العجيب أن كثيرين تصوروا الأحلام أحلام نوم شيخنا، وأنه يرصدها مثلما يحكي أى منا حلمه، ونفى شيخنا ذلك عدة مرات، ونبه إلى أن بعض ما يتبقى من أحلامه عند اليقظة يصبح المادة الخام التى ينسج منها إبداعات الأحلام المكتوبة». وفى السطور الآتية نتذكر بعضا من أحلام كاتبنا الكبير المنشورة فى الجزء الأول من «أحلام فترة النقاهة».

حلم 50
كنت أتطلع إلى امرأة فاتنة تسير فى الطريق فاقترب مني بجرأة وهمس فى أذني إنها تحت أمري إذا أمرت. كان براق العينين منفَرا ولكنى لم أصده. واتفقنا على مبلغ وأصر على أن يأخذ نصفه مقدما فأعطيته النصف. وضرب لي موعدا ولكن عند اللقاء كان بمفرده واعتذر بتوعك المرأة وكان على أتم استعداد لرد المقدم ولكني صدقته وأبقيته معي. وكان يقابلنى فى حلي وترحالي ويطالبني بالصبر. وخشيت أن تسئ هذه المقابلات سمعتى فأخبرته أننى عدلت عن رغبتى ولن أسترد المقدم ولكن عليه ألا يقابلني. ولم يعد يقابلني ولكنه كان يلوح بها فى أكثر الأماكن التى أذهب إليها.
وضقت به كما كرهته وقررت الانتقال إلى الإسكندرية. وفى محطة سيدى جابر رأيته واقفا وكأنه ينتظر.

حلم 97
هذه حجرة السكرتارية حيث أمضيت عمرا قبل إحالتى إلى المعاش، وحيث زاملت نخبة من الموظفين شاء القدر أن أشيع جنازاتهم جميعا، واسترقت نظرة من داخل الحجرة لأرى من خلفونا من الشباب، فكدت أصعق لم أر سوى زملائي القدامى واندفعت إلى الداخل هاتفا سلام الله على الأحباب متوقعا ذهولا واضطرابا، ولكن أحدا لم يرفع رأسه عن أوراقه فارتددت إلى نفسى محبطا تعسا، ولما حان وقت الانصراف غادروا مكاتبهم دون أن يلتفت أحد نحوي بمن فيهم المترجمة الحسناء، ووجدت نفسي وحيدا فى حجرة خالية.

حلم 106
غزا الوزارة نبأ بأن انقلابا قد وقع فى الصباح الباكر فتجمع الموظفون حول التليفزيون واستمعنا إلى البيان الأول، فقال موظف قديم إنه سمع هذا البيان فى مطلع شبابه، أما أنا فاكتشفت أن زعيم الانقلاب صديق حميم، ومن فرحتي أعلنت الخبر مسترخيا فى حبور بأن الحياة سوف تضحك لي، فقال الموظف القديم: إنه قد تضحك لي الدنيا وقد أعدم بدون محاكمة.

حلم 112
يا لها من ضوضاء، فثمة أصوات متضاربة وخطوات تهرول حينا وتركض حينا وصرخة هنا وصرخة هناك وطلقات نارية وامرأة تستغيث بالله، أذهلني التشابه بين صوته وصوت المرحومة أمي، ومن فوري هرعت إلى السطوح حيث اجتمع إخوتي وإخواني وتحدث أخى الأكبر عن الاستغاثة والصوت، فقال لي بتيقن بأن الصوت هو صوت أمنا دون غيره وليس آخر يشبهه.

حلم 125
توجهت إلى مسكنى فوجدته يمور بالحركة ولا شىء من الأثاث فى موضعه، وثمة غلمان وبنات لا أعرفهم يلعبون هنا وهناك دون أن يحسوا بحضوري فانقبض صدري، ودلفت إلى الشرفة المطلة على حديقة قريبة منى، وفيها شجرة ضخمة تمتلئ أغصانها بالعصافير المزقزقة، وكانت الزقزقة وحركة العصافير قد أنستنى كل شىء غير صوت العصافير وهي تغرد.

حلم 144
نظرت فى ظمات الماضى فرأيت وجه حبيبتى يتألق نورا بعد أن دام غيابها خمسين سنة، فسألتها عن الرسالة التى أرسلتها لها منذ أسبوع، فقالت إنها وجدتها مفعمة بالحب ولكنها لاحظت أن الخط الذى كتبت به ينم عن إصابة كاتبه بداء الخوف من الحياة وبخاصة من الحب والزواج، ولما كنت مصابا بنفس الداء فقد عدلت عن الذهاب إليك وفكرت فى النجاة فلذت بالفرار.

حلم 184
قرأت مقالة الكاتبة «ك» التى تتضمن نقدا لاذعا لى، ثم رأيتنى أسالها فى النادى ألا تذكرين كيف وقفت إلى جانبك فى محنتك؟ فقالت: لا يمكن أن أنساها إذ كنت الوحيد الذى تصدى للدفاع عني ضد هجمات النقد الشرسة على كتابى، ولكن بعد فترة هدوء وتأمل تبين لي أن النقد كان على حق، وأني استعملت الجنس لأغراض تجارية، ولكنك دافعت عني لغرض فى نفسك نلته فسقطت فى نظري، فلقننى قولها درسا قاسيا!

حلم 196
دعانا أستاذنا للغداء وبعد تناول الطعام جلسنا حوله نطرح الأسئلة ونناقش الأجوبة وإذا بالشرطة تقتحم المنزل وتسوقنا إلى المعتقل، حيث مكثنا ستة أشهر دون محاكمة ثم أفرج عنا دون أن نعلم السبب الذى اعتقلنا من أجله وحتى اليوم كلما تذكرت عذاب المعتقل تساءلت عن السبب الذى من أجله اعتقلنا. 


الشروق

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *