السماح عبدالله
كنا جالسين حول طاولات الحوار ندخن التبغ ونرشف الكلام ونأكل الذكريات.
تحدث واحدٌ منا عن ملاءمة السواد لتفاعيل القصيدة، وعقد آخر مقارنة بين حفيف فساتين النساء ذوات الأربعين ربيعا، وبين مسّ الرياح لورق الشجرات. وجرّنا الحديث للعلويّ بهيّ الطلعة ذي العباءة السوداء، في جنوب العاصمة الشجريّة وتساءلنا: كيف حال فيروز.
عبق الدخانُ الأزرق أرجاء المكان، عندما هبط علينا من عليائه السرمديّ، الشبح الأسودُ، فصمتنا كعادتنا في حضرته القابضة، نطق بأربع كلمات:
(غدا سيموت السيّدُ المتوّج).
قلنا: إن هي إلا سنوات جد قليلة، ويقف السيد المتوج على حافة القرن. قلنا: لم يقف على حافة القرن المكتمل من السيدين المتوجين أحد من قبل. قلنا: وحده القادر على ذلك. قلنا: لكن الشبح الأسود لم يكذب من قبل. قلنا: ولكن السيد المتوج كاسرٌ لكل القوانين والأعراف. وضحكنا. السيد المتوج سيقف – حتما – على حافة القرن.
عاد بنا الحديث لمواضيعنا الأولى. فدخنا التبغ ورشفنا الكلام وأكلنا الذكريات. وتساءلنا: كيف حال فيروز.
***
في الصبح نفضنا وجوهنا من النعاس وخلعنا جلابيب حكايات الليل وارتدينا البدلات الكاملة ولففنا رقابنا برابطات العنق السوداء ووقفنا في البهو فالشبح الأسود صادق ولم نعهد عليه كذبا. ثبّتنا شاشة التليفزيون على قناة الموتى. كانت الشاشة سوداء. تدريجيا هبط إليها الضوء. وظهرت التصاوير. في المنتصف تماما وقف المذيع القديم مشيّع الموتى الشهير في يده اليسرى شمعة يتأرجح ضوؤها الشحيح وفي يده اليمنى كتابه المسطور، وكان يقرأ منه بصوته الضارب في القدم قرأ كلماته الأربع المكرورة والمحفوظة عن ظهر قلب في مثل هذه الإطلالات التي يطل بها علينا بين الحين والحين: (مات الآن السيد المتوّج).
على يساره وقف توفيق الحكيم بالعصا والبيريه وسلامة موسى بنظرته الحادة وطه حسين بتجاعيده الغائرة وفي آخر الصف جلس السيد قطب بطربوشه القاني. على يمينه وقفت أم كلثوم بمنديلها المضموم ومحمود مختار بإزميله البارق وصلاح أبوسيف بكاميرته الصاحية وفي آخر الصف جلس أحمد شوقي بيده المغروزة في خده الأيمن. خلف هؤلاء وهؤلاء اصطف طابور السيدين المتوجين في الضفاف الأخرى ثرفانتس على حصانه المخاتل وشيكسبير في بلاط الملوك الأنيقين ودوستويفسكي في أحزانه العريضة وألبير كامو في حدائقه الذبيحة وفيكتور هوجو مفكرا في مصير أنداده المتخيّلين وموليير مطاردا فراشات الموتى ودانتي باحثا عن أطياف الهاربين من الجحيم .
وشيئا فشيئا أخذت الظلمة تهبط، فاختفى الشخوص كلهم وظلت ذبالة الشمعة وحدها تضيء الشاشة. وخرجنا للجنازة.
في الصوان الكبير لمحنا سعد باشا زغلول فهرعنا إليه وسألناه: لماذا تركتَ مقامك الرفيع يا دولة الرئيس أما كان يكفي تلغراف للمواساة يرسله نيابة عنك عبد الرحمن باشا فهمي؟ فأجابنا هادئا: ما أهون أن يعفّرَ الترابُ قدميْ دولة الرئيس، إنه ابني الذي به سُرِرت.
والتقط أطراف الحديث مصطفى باشا النحاس معقبا:
إنه الوفديّ الحقيقي حتى لو لم ينضم للحزب.
في هذه الأثناء لمحنا جملا باركا قُدّام الصوان فإذا بعبد الرحمن الجبرتي يهبط من على سنامه حاملا أسفاره الثقيلة وريشته المغروسة في المحبرة وقبل أن نسأله أجابنا: لا ينبغي أن يفوتني تأريخ هذه اللحظة سأسارع بتدوينها مسجلا سبقا تاريخيا قبل أن يفعلها المقريزيّ أو ابن إياس أو حتى ابن تغري بردي.
لم يستطع أحدٌ منا أبدا الاقتراب من الجبلاوي كان في صمته المهيب جالسا القرفصاء وتحت أقدامه التفّ أبناؤه: أدهم، وجبل ورفاعة والقاسم وعرفة يقرّبون له الشراب وينفضون الغبار العالق بجلبابه النورانيّ. واصطفّ أندادُ السيّد المتوّجِ في كراسيّ مرصوصة قُدّام الجبلاوي بحسب سنهم ومقامهم. السيد أحمد عبد الجواد وأنجلاه وعاشور الناجي وسلالته ومحجوب عبد الدايم وأعدقاؤه علي طه وأحمد بدير ومأمون رضوان. وكان حضرة المحترم ماسكا دفتره الديوانيّ يحاول أن يثبت حضور الحاضرين وغياب الغُيّاب ليرسل لهم إنذارا رسميّا على يد محضر ينذرهم فيه بالخصم أو بإنزالهم درجة وظيفية أو درجتين وظيفيتين عن درجاتهم الحالية مذكرا إياهم بقرب إحالتهم للتقاعد وبحاجتهم الملحة للانتظام لكي يكفي معاشُهم معيشتهم.
صافحنا الزعيم الملهم جمال عبد الناصر والرئيس المؤمن محمد أنور السادات، ونحن نهمّ بمغادرة المكان مقدمين لهما واجب العزاء.
***
عدنا لنلتف حول طاولات الحوار في البيت. عندما فتحنا باب الشقة لندخل فوجئنا بالسيد المتوّج جالسا في صدر البهو يدخن سيجارته الملفوفة وينفث دخانها الأزرق مفكرا في مصير أنداده الذين يطرقون عليه بابه بين الحين والحين في غفواته الخفيفة إبان فترة النقاهة. عندما لقيناه هللنا وتصايحنا وأنشدنا الأغاني الفارسية التي علمّنا إياها ثم أخذناه في أحضاننا غير مصدقين. فعاتبنا برقته المعهودة: وهل مازلتم تصدقون الشبح الأسود؟ وجلسنا كعادتنا حوله. قصصنا عليه الرواية كاملة منذ هبوط الشبح الأسود وحتى مصافحتنا لرئيسي مصر الكبيرين. كان مندهشا ويسأل عن أدق التفاصيل. وكان بين الحين والحين يسأل في سعادة غامرة: هل حقا حضر دولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول؟ أطفأ سيجارته وقال متحسرا: ليتني ذهبت معكم . فاتني هذا المشهد الجليل.
– عن الدستور الثقافي