*أمير داود
رام الله لا تمشي وحدها هذه الأيام، بالاعتذار من النادي الإنجليزي في مدينة ليفربول الذي خصّص له جماهيره أغنية بعنوان: “لن تمشي وحدك أبداً”. وبين ليفربول ورام الله مساحات متباينة من اللون والصوت.
تكاد المدينة التي تجاذبتها أضواء وألوان السياسة مبكّراً، أن تجد نفسها في كل شاردة وواردة في مهب الأقاويل والتجاذبات، ليس على صعيد التناحر السياسي الذي أضحت الطبقة السياسية الحاكمة، في شقي الوطن، المستحوذ الفعلي على حيثياته وحسب، بل تجاوز ذلك كله إلى حديث الشارع العربي، بفضل سرعة انتشار الصورة وما خلفها في زمن التواصل وشبكاته.
لكن، هل تتحمّل المدينة مسؤولية ما يحدث؟ وهي التي تمشي على حبل المتناقضات بالخفّة التي لا يحتملها عقل هذه الأيام. إنها ليست مدينة أوروبية أو عاصمة من عواصم الشرق الآسيوي حتى تُدار عن إنجازاتها وهفواتها الخدود والعيون. إنها المدينة الفلسطينية التي أخذت دوراً يفوق حجمها منذ وصول السلطة الفلسطينية، حاكماً فعلياً منها.
هل تحاكَم رام الله، بنفس المنطق الذي تحاكَم به كبريات المدن والعواصم العربية: القاهرة وبيروت وبغداد والرياض؟ أم أن سياق نموّها اللافت للانتباه على مدار عشرين عاماً يسلبها أسباب مسامحتها كمدينة يحدث بين جنباتها، ما يحدث في عاصمة ضخمة وتُغَضّ عن أحداثها الأبصار. تبدو الإجابة بالنفي هنا.
لم يكد يمرّ على مهرجان “حرب الألوان” الترفيهي، بنسخة رام الله يوم واحد، حتى تحوّلت المدينة كلّها، وبكل ما تحتويه من تباينات إلى هدف للّوم والاتهام والتخوين. رفض وتخوين ينطوي في مجمله على كل ما تحتمله خطابات التخوين والازدراء من ادّعاءات التفوق و”السوبرمانية”.
استنكر البعض سماح السلطة بإقامة المهرجان في حين “تقمع” مسيرات ضد الاعتقال السياسي، وقارن آخرون صور المحتفلين بصور مقاتلين بوجوه مدهونة باللون الأسود والأخضر في غزة، وصورة طفلة من القطاع تملأ الدماء وجهها.
لكن وفي ذات الوقت، هل على رام الله، وفي كل مرة تصاب فيها بسهم من سهام أدعياء اللطم في الجنازات، أن تُشرع هواءها للتبرير والدفاع عن شساعة قلبها للاختلاف والتنوّع والأمزجة الكثيرة؟
أم أن هؤلاء الرافضين ما زالوا يحتفظون بصورة ثابتة لا تنحني لمعايير الحداثة والانفتاح والحق في التعبير والسلوك للمدينة الفلسطينية، رام الله مثالاً. وبالتالي على هذه المدينة أن تنجز شرطها الأول؛ الانعتاق من الاحتلال، ثم تذهب بعيداً في ما يرونه حقّ تشكيل صورتها بعد التحرر.
نقول مثلاً: ماذا يضير مدينة، مثل رام الله، الآن، إذا تحوّل شارع من شوارعها إلى ميدان للاحتفال باللون، “أصل البصر”، وتحوّل شارع آخر للاحتفاء بكتاب صدر حديثاً، وآخر للإعلان عن انطلاق فرقة مسرحية جديدة، وزقاق عن ولادة فصيل يرفض الراهن السياسي، وآخر للخائفين المتوتّرين من الفرح والابتسام والعمل والتقدّم إلى الأمام؟ وخيارات وأزقة وشوارع كثيرة أخرى تعلو وتخفت حدة الصفقات لها.
إنه لا يضير المدينة، بالقدر الذي يختنق فيه ملوك اللون الواحد، وهم كثر، من وهج اللون والفرح والحركة التي تحبس الأنفاس. لا أحد في باريس يحبّ باريس كلها، اللندنيون أيضاً، لكن لا أحد يشتم باريس لأنها أقامت مهرجاناً لزيت الزيتون، ولا أحد يقول إن لندن في طريقها إلى الهاوية، لأنها افتتحت مزاراً لرجل دين من جماعة المورمون. إنها ثقافة كيف تختار لنفسك ما تريد، لا ثقافة إمّا هنا أو لا شيء.
قد يكون من المناسب في مكان مثل هذا، استدعاء كل المقولات التي تتحدّث عن اعتقال الفرح لصالح الحزن المزمن في القلوب، ومصادرة الحق في الحياة بداعي أصلانية الحزن، واغتيال الأعراس لصالح نموذج الجنازة الذي يخدم الأوطان.
كيف تهرب المدينة أصلاً من لعنة الثنائيات؟ وكأن حال الرافضين لكل فعل يتجاوز المقيت السياسي والمهزوم التاريخي يقول: إمّا أن تواصل المدينة وعي الهزيمة الممتد منذ عقود، أو لا تكون أصلاً.
لكن وفي مقابل ذلك كلّه، فإن أكثر ما يثير القلق في فعاليات وكرنفالات مثل هذه، هي أنها مناسبات مفاجئة، تحدث من دون إعلان واضح، تنظّمها فئة معينة، وكأنها حكر على فئة اجتماعية دون أخرى. هل يحتكر أصحاب رؤوس الأموال الفرح والاحتفال بهذه الطريقة، فيما يُترك الفقراء، مثلاً، رهن الحرمان والمعاناة؟
هل تسقط ثقافة المدينة، وبالتالي الثقافة الوطنية كلها في دوامة أسئلة انمحاء الثقافة الوطنية في مقابل الانخراط في ثقافات أخرى، مهرجان “حرب الألوان” نموذجاً، وهو نموذج غربي بملامح بورجوازية لا يشبه الطريقة المتعارف عليها في الاحتفال والاحتفاء هنا.
وبين كثافة وقتامة متغيّرات الواقع الفلسطيني، تبقى المدينة رهينة لعنة الثنائيات، لا هي قادرة على تجاوز وعي الهزيمة ومآلاته إلى مربعات جديدة، ولا هي قادرة على البقاء في مربعها الأول، الذي غادرته أصلاً، مكرهة أو عن طواعية. لا أحد يدري!
______
*العربي الجديد