اكتئاب العصافير


* شيرين حسن يوسف

خاص ( ثقافات )

أصبحت أكره حساء الجزر الأصفر؛ فكلما أراه ممددا أمامي في الصحون باصفرار الحزن، أتذكر المشهد الذي غاب عني منذ عام تقريبا، حين كنت أطعم “فارس”، ويسيل الحساء من طرف فمه المرتعش ليلوث ثيابه، وينتهي المشهد بصفعة من أبيه فوق خديه الورديين المنتفخين، وشتائم حقيرة على شاكلة ” مجنون … متخلف … أخرق”.
حين كان يهم بالسير بطريقته المهتزة، كان يشير إليه هازئا فيسقط “فارس” من الارتباك، وحين كنت أشرع في معاونتة على النهوض كان يدفعني بعنف صارخا بوجهي “دعيه يعتمد على نفسه”.
كان”” صوت مميز مضطرب تعلو وتيرته بشكل مفاجئ مما كان يثير غضب أبيه، وبمجرد خروجه من البيت كان”فارس” يغني لي وأشجعه ..أصفق له .. و حين ينتهي أقبله بين عينيه، كانت العصافير تحط على كتفيه كلما أجلسته في الحديقة تحت الشمس، كانت تزقزق وربما كان يفهم منطقها كانت تأكل من يديه تقلم وحدته ..تآخيه..تصنع له جنة وارفة الأحلام..كان يناديها بتلعثمه البريء بسجيته الخضراء، كان ارتعاش يديه يسبب له أكثر المشكلات مع أبيه. لا أنسى حين غافلنا ودخل إلى الحجرة الكبيرة ..مشط شعره بمشط أبيه وارتدى ربطة عنقه المفضلة وحين شرع في إتمام المشهد بوضع العطر سقطت الزجاجة على الأرض محدثة فضيحة لمغامرته الصامتة، جرى أبوه إلى الغرفة عنفه على فعلته ركله بقدمه ولطم وجهه حتى سال الدم من أنفه، جرى إلى حديقة المنزل واختبأ داخل الكوخ المخصص لكلب الجيران باكيا.. متمتما بكلماته المشوشة ، بات ليلته وحيدا في الكوخ بينما منعني أبوه من مجرد مغادرة الغرفة، مهددا إياي ببندقية الصيد خاصته، سجنني في الغرفة حتى استفاق النهار على بكائي.. فتح الباب وببرود المقامر اعترض فراري وبنبرة لم أميز مغزاها قال “لا تحزني .. هكذا أراد الله مات فارس”. أسقطتني المفاجأة أرضا، وحين استفقت من غيبوبتي اخبرني بأنه قتل “فارس” برصاصة طائشة من بندقيته حين كان ينظفها لم أصدقه بالطبع إلا أنني لم ار جدوى من تكذيبه …
مضت الأيام ثقيلة بين اكتئابي وبكائي المزمن وهلاوسي وكوابيسي و صوت”فارس” الذي لا يفارقني ، بدأت العصافير تذبل فوق أغصان الشجرة التي كان يجلس تحتها حتى هجرت الحديقة تماما.
لم أنم تلك الليلة و لم أستطع تجاوز الذكريات التي كانت تحوم حولي بينما هو كان يغط في نوم عميق ، حين استيقظ كنت قد أعددت الإفطار، ألقى تحية الصباح ببرودة المعهود وجلس قبالتي يتناول إفطاره ، اقتربت حمامتان من حبل الغسيل المشنوق بين شجرتين بحديقة المنزل نظر فجأة عبر النافذة ثم توقف صائحا:القذرتان ستلوثا الثياب…
نظرت إلى ذلك المشهد المستأنس جدا في تلك الساعة من النهار تحت أشعة الشمس الخفيفة، وحبل الغسيل يهتز برقة و ترفرف فوقه القمصان ذات الأكمام الطويلة و السراويل الغامقة، سقطت إحدى الحمامتين على الأرض والأخرى إلى جوارها، هو لم يعد على المقعد أمامي ها هو عائد من الحديقة شاهرا بندقيته، التي برصاصة واحدة منها قتل () طفلي الوحيد منذ عام، ببساطة شديدة تمكن من تغيير ملامح هذا الصباح بل تمكن من تلويث يومي بالكامل بقطرات الدماء التي تناثرت فوق أكمام القمصان المبتلة والسراويل، أعدت تهذيب الحبال وفككت المشابك و بدأت في لملمة الثياب المبتلة، بينما بدأت الدماء تسير عبر الحشائش الخضراء التي تكسو الحديقة، لو شربها الطين لأنبت شجرة تليق بتمجيد الموت المدهش.
في حوض الماء كانت الملابس تطفو بين رغوة الصابون و 
بقايا الدم و بعض من الريش الأبيض، كانت أصابعي تموت ببطء داخل هذا التابوت المائي، حقدت كثيرا على تلك القمصان والسراويل لأنها تتخلص ببساطة من ذكرياتها السيئة ببضع من الماء والصابون….
يخيل إليّ في كل لحظة كف (فارس) تداعب الدقيق وتعصر البرتقال، بحافة السكين تأكدت من أن الكعكة نضجت تماما، حملتها إلى منضدة المطبخ الخشبية وبدأت في تزيينها بحلوى الفانيليا التي أحبها والكاكاو التي يحبها هو، كعكة مشطورة إلى نصفين من اللون والمذاق، فهذا هو الاحتفال الأول بيوم ميلاد(فارس) بعد أن رحل. احتفال بيوم ميلاد ميت، بدأت في رش الشيكولاته المبشورة على وجه الكعكة وهي تستحيل أمامي إلى قطرات من الدم _ دم (فارس) _ و دموعي الساخنة.
بدأت جموع الأطفال تطير إلى حديقة المنزل في أسراب ملونة بعلب الهدايا والأحلام والحلوى، بينما بدأت الفرقة الصغيرة في عزف أغنية عيد الميلاد وقد ارتدى أحد الأطفال قناعا لوجه مهرج باعثا نوعا من المرح و البهجة، إلا أنه تعرقل في حبل الغسيل المقطوع و سقط أرضا باكيا من تحت القناع_مهرج يبكي_في يوم ميلاد (فارس) مهرج يبكي و وموسيقى الخلفية بكاء…
بعدت قليلا عن المشهد الحي لأقترب من الكوخ الخشبي، حاولت فتح الباب الصغير ..ناديت (فارس) لم يجبني سوى صدى صوتي وصرير الباب، كانت الشمس نصف موجودة ولذلك تمكنت من رؤية ما بداخل الكوخ بنصف وضوح، كانت هناك ساق بلاستيكية لدمية صغيرة وكرة بيضاء مفرغة الهواء كانت هناك رائحة_ رائحة (فارس). 
في المساء عاد وحول رقبته عقد من العصافير التي اصطادها وبدأ يصرخ بوجه الصغار المحتشدين بالحديقة حتى تفرقوا تماما، وبت ليلتي في الكوخ الصغير و قد زارني(فارس) ثلاث مرات في أحلام متقطعة خلال نومي المتوتر تلك الليلة التي أيقظني فيها عند الفجر شعاع ضوء مريض وصوت طلقة اخترق صمت تلك الساعة المسروقة ما بين الليل والنهار، دخلت بعدها إلى البيت لأجده قد أنهى الأمر برصاصة أخرى وجسده ممدد إلى جوار المدفأة، و بدأت العصافير تحلق فوق البيت من جديد حائمة حول الشجرة التي بدأت تلقي بظلالها الخضراء على البيت .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *