سامر محمد اسماعيل
دراسته للتاريخ في جامعة دمشق تركت له الباب موارباً أمام نصه الذي سيكتبه لاحقاً بين الشعر والرواية والصحافة والنقد؛ مقتحماً بذلك تراث الأسلاف من جهة قراءة نهمة ولا تهدأ للماضي السوري وإسقاطه على يوميات بلاد عايشها من أقصاها البدوي إلى أقصاها الحضري. هكذا ترك الشاب اليافع خليل صويلح – 1959 بلدته (الرشيدية) في أقصى شمال شرق سورية؛ متجهاً من الحسكة إلى دمشق منتصف ثمانينيات القرن الماضي؛ قاطعاً قرابة ألف كيلو متر بعيداً عن والديه « صالح ومسيرة» ليعيش تجربة سيتذكرها دائماً كلما شاهد فيلم عمر أميرالاي وسعد الله ونوس (الحياة اليومية في قرية سورية): «عندما رأيتُ هذا الفيلم لأول مرة عرفتُ حجم المفارقة التي وقعتُ بها، فبعد أن سافرت من الحسكة قبل أكثر من ثلاثين عاماً، قاطعاً كل هذه المسافة لأكتب نصي في دمشق، عرفت أنني قد تركت نصي ورائي».
مفارقة سوف يدوّنها لاحقاً في روايته «سيأتيك الغزال – 2011» مطوعاً مستويات سحرية من السرد لمصلحة نص نمت أدواته وازدهرت مع بداية عمله في الصحافة الورقية في جريدة «نضال الفلاحين». مرحلة ستهدي الشاب المتمرد إلى مقاهي المدينة ومثقفيها؛ حاناتها ومكتباتها ومسارحها؛ إلا أن المقهى في حياة هذا الرجل سيظل هو العلامة الفارقة في نهاراته الدمشقية حيث يقضي معظم سحابتها في مقهى الروضة؛ هناك حيث التقيناه؛ يشرب كأس قهوته «المزبوطة»؛ بالقرب من مبنى البرلمان السوري؛ عائداً للتو من عمله في جريدة (تشرين) التي لا يزال يشرف فيها على تحرير صفحة (كتب) الأسبوعية؛ بعد أن توقف مشروعه اللافت (أبواب) الملحق الثقافي للجريدة؛ والذي لطالما جاهد الكاتب العنيد فيه لتكريس حساسيات جديدة عبر صفحاته الأسبوعية.
شاعر فروائي
بدأ صويلح الكتابة كشاعر، وما زال جمهور القراء في التسعينيات يتذكر بحنين دواوينه الشعرية الأولى: (افتتاحيات، هكذا كان المشهد، اقتفاء الأثر): «الشعر لا يؤلم أحداً فكل السوريين شعراء. في ذلك الوقت لم يكن في سوريا سوى قرابة خمسة عشر روائياً، مما يجعل من أي روائي جديد في نظر هؤلاء تلويثاً لأوكسجين الرواية، فلو كتبتُ الرواية وأنا شاب صغير يحلم بأن يصبح مثل وليد إخلاصي مثلاً؛ لما كان هناك مشكلة، لكن كوني كنت قد نشرت ثلاثة دواوين شعرية حتى ذلك الوقت؛ كان من الصعوبة بمكان أن اقتحم عالم الرواية».
منذ البداية عرف صاحب «دع عنكَ لومي – 2006» أن عليه أن يقدم نصاً مفارقاً سردياً وفنياً، لحظة وعي فردية – كما يقول – قدمت ولادة ناضجة لروايته الأولى «بريد عاجل»؛ أضف إلى ذلك نظرة الروائيين المكرسين في الساحة الثقافية السورية الذين تساءلوا عما يريده ذلك الفتى القادم من الشعر؛ إلا أن الرجل انتزع الاعتراف باكراً برواية لاذعة وذات محمول لغوي صادم في تشريحها للمجتمعات الهامشية وليونتها السردية في تعرية بيئات المثقفين ونوادرهم وزيفهم الاجتماعي المزمن؛ فرواياته كانت بمثابة شتيمة بالنسبة لروائيين كرستهم الثقافة الرسمية واتحاد الكتاب العرب: «حتى مطلع التسعينيات كان هناك ستة أو سبعة روائيين يعتبرون أنفسهم عباقرة الفن الروائي في سوريا، ولا أكتمك سراً أن هؤلاء كانوا مسرورين لموت هاني الراهب المفاجئ، فموته أراح الكثيرين وجعلهم يتوقعون أنه ليس من أحد قادرا على منافستهم أو تعكير صفوهم».
صعد صويلح بقوة مع جيله الجديد؛ مشتغلاً على نص استقى مشروعيته من لغة الصحافة؛ فكان عليه وبصحبة روائيين قادمين من أماكن الهامش أن يقدموا قراءة مختلفة للمشهد الاجتماعي والسياسي للبلاد؛ فغيرت نصوصهم المعادلة: «جيلي قرأ أدب أميركا اللاتينية وروايات ميلان كونديرا وساراماغو وفرجينيا وولف، قدم إلى دمشق من الريف البعيد، وأجزم أن هذا الجيل يعرف عن دمشق ما لا يعرفه الدمشقيون أنفسهم، جيل عايش عن قرب أحياء العشوائيات وسكانها، ودلف إلى ردهات مختلفة في المدينة، تسكع في حاناتها وحواريها الخلفية، واستطاع أن يكوّن معرفته الخاصة بالعاصمة كمدينة متعددة المشارب ثقافياً وديموغرافياً، فيما ظل الجيل السابق مستلقياً على ما يظنه كنزاً من أفكار بائتة عن المدينة التي عاش فيها مستكيناً لأفكاره الراسخة عنها».
موزاييك ونسيج متكامل من تفاصيل المغامرة السردية الجديدة تمكن ملاحظتها في رواياته؛ فهي لا تشتمل على قصص مشوقة كما هو سائد كفهم عن فن الرواية، بل يصر صويلح على خذلان قارئه حتى النهاية، كما يقول؛ فالمشهد لديه يلغي المشهد التالي، والصورة تلغي الصورة، ولا وجود لمسار تقليدي في سرديته المشاغبة التي تعمل على أسطرة اليومي بسخرية ومرارة لا تخلو من عبث وجودي يحاول دائماً اصطياد اللحظة الراهنة لمصلحة شخوص روايته؛ ميزة جعلته ينتزع عام 2007 جائزة نجيب محفوظ عن روايته «ورّاق الحب – 2002» مستعيراً سيرة الشهوة المعتم عليها من بطون التراث الإيروتيكي العربي؛ والتي أصدر مؤخراً كتابه النقدي عنها بعنوان: «تاريخ قانون الشهوة – نينوى» الكتاب الذي سيتوج عدداً من مؤلفاته النقدية في هذا السياق، لعل أبرزها كتاب حواراته مع محمد الماغوط «اغتصاب كان وأخواتها» و «نصوص» أوديسة الغجر» وفيها جميعها لا تفترق لغة الروائي عن الصحافي الذي يكتب لجريدة الأخبار اللبنانية من دمشق؛ فهي صورة لمفكر صحافي يكتب عن الحركة التشكيلية مثلما يقرأ في كتب غيره من موقع المعلّق الذكي والمتابع اللدود.
عرضة للتخوين
مزايا جعلته عرضةً دائماً للتخوين من عسس الثقافة الجدد وحراس الفضيلة: «كما يقول الماغوط لا تمر موهبة بدون عقاب؛ فكوني أول روائي سوري مُنح جائزة نجيب محفوظ، كانت ضربة قاصمة لآخرين، مع أنني كنت الكاتب العربي الرابع عشر الذي حاز هذه الجائزة؛ والتي حازها قبلي العديد من الأسماء العربية كسحر خليفة ويوسف إدريس، لكن لم يثر حول هؤلاء، كنتيجة لنيلهم الجائزة، أية تهمة من التي تعرضت لها في وطني، ومع أن الصحافة المحلية كانت تورد أخباراً عن جائزة محفوظ سنوياً، إلا أنه لم يقل عنها أحد أنها جائزة مشبوهة حتى فزتُ أنا بها»!
حضوره في الصحافة اليومية مكنه من الابتعاد عن أمراض الأيديولوجية وسرديات المقولات الكبرى؛ محققا له شهرة واسعة بين جيل اليوم؛ ليحقق على التوالي نصوصاً شرسة عن أبطال الساحات الخلفية؛ فمنذ روايته «سارة وزهور وناريمان – 2008» تكرست لهجته الأدبية كمعادل للغضب والتمرد وعدم الرضوخ للسياقات التقليدية التي اشتهرت بها الرواية السورية قرابة نصف قرن؛ والتي مال معظم كتّابها الرواد إلى التاريخية والوثيقة وأدب السجون: «يمكن لأن الشباب الجديد خرج أخيراً من سطوة الأسماء الكبيرة؛ وعزلتها في غرف كتابتها الغامضة، مما ساهم بإعطائي مفتاحاً لمعرفة مزاج هذه القراءة الجديدة، فقارئ اليوم يريد ما يشبهه، إنني أكتب من موقع القارئ، لا من موقع التعالي عليه، و لهذا كان اشتغالي على المشهدية، على الصورة التي استعرتها من عالم قصيدة النثر، لا على استطالات الوصف الذي يضني القارئ ويدمر أعصابه».
تصدرت رواية صويلح مطلع الألفية الثالثة، ومع دخول بلاده عالم المجتمعات الرقمية الجديدة، باحثةً عن رواية بديلة، طورها هذا الكاتب في روايته الأخيرة «جنة البرابرة – الشروق» مزاوجاً بين مجاهيل المصير لبلاده والسيرة الشعبية في «حوادث دمشق اليومية» للبديري حلاق؛ جنباً إلى جنب مع اقتباسات ماهرة عن ابن خلدون وابن عساكر، ليحيل بذلك الكابوس السوري إلى ماضيه الأصلي؛ دون أن يتحيز لطرف على حساب آخر، فهو يدين القتل أياً يكن القاتل، وتحت أي مسمى: «حاولتُ أن أقول أن لحظة العولمة أو الميديا الجديدة كانت لحظة زائفة؛ فالخنجر لا يزال على خصر الكثير من المثقفين السوريين، ودخول هؤلاء في لحظة الحداثة كان مسألة شكلانية غير ذات عمق معرفي أو اجتماعي، ولذلك ظلت المجتمعات القبلية على مكاتب الكثيرين ممن يدعون القيام بأدوار ثقافية هي مجرد ديكورات، فحتى هذه اللحظة ما زالت القبلية تحكم عقول كثير منهم رغم كل ما أنجزه السوريون بعد الاستقلال نحو الحداثة والمدنية؛ إلا أن ذلك بقي على السطح، بدلالة أن معظمنا كسوريين ارتد في الآونة الأخيرة، نحو مربعه الاجتماعي الأول، عبر انتمائه الدفين إلى العشيرة والقبيلة وسواها من انتماءات ما قبل الدولة».
السفير