في انتظار البرابرة


علاء الديب

رواية «فى انتظار البرابرة» للكاتب الجنوب أفريقي كوتزي مدخل فني محكم الصنعة وحسن البناء إلى عالم بلا حدود من المشاكل الإنسانية والسياسية التي سيطرت على القرن العشرين، ومازالت تحتل القرن الجديد: الاستعمار والعنصرية واختفاء المعنى الحقيقي للديمقراطية والعدل، ومقدرة الإنسان، الذي يدعي التحضر والمدنية، على ارتكاب أقسى وأبشع الجرائم ضد الآخر بدعاوى كاذبة للتمدين، بينما العلاقة قائمة على الكذب والاستغلال حتى النخاع.

الحرب تلد رواية المشهد فى «جنة البرابرة»
«فى انتظار البرابرة» توضع في قوائم أهم روايات القرن، وقد حصل كوتزي على جائزة البوكر (الأصلية) مرتين، قبل أن يتوج أدبه بجائزة نوبل 2003. هو الآن واحد من أهم كتاب الإنجليزية. ولد في جنوب أفريقيا 1940. درس الرياضيات والبرمجة الحديثة، بعد أن كان قد عاصر في بلاده أفظع أنواع الاضطهاد والعنصرية (الأبارتيد) حيث البشر منقسم في الأوراق الرسمية وكل شؤون الحياة إلى أربعة أنواع: أبيض- أسود- ملون- هندى، وحيث الماس والذهب والحرب هي الآلهة المعبودة. هو من الأفريكان من أصول هولندية، ولكنه يحمل روحا متمردة زاهدة، يكتب بالإنجليزية والفرنسية. ولا يرى أن المذاهب السياسية (حتى أقصى اليسار) تملك الآن حلاً للواقع الذي خضع تماماً لتحكم قوانين السوق والمال.
انتقل ليكمل دراسة الأدب في الولايات المتحدة، حيث دخل هناك نوعا مختلفا من العنصرية، واشترك في الحركات المناهضة لحرب (فيتنام)، الأمر الذي قاده إلى السجن ثم الطرد، لكى يعود إلى جنوب أفريقيا، بلاده، هناك شعر للمرة الثانية أن الفكر، والأدب الذي يمكن تقديمه هنا هو فكر وأدب يكتب في سجن كبير خلف قضبان، يدعى الجميع أنه لا يراها. إلى أستراليا، القارة الواسعة الجديدة البكر. الحرية.. قال وهو يسكن في المدن الجديدة بعيداً عن العاصمة: حرية.. وعالم جديد مفتوح. قال أنا لم أغادر جنوب أفريقيا، ولكننى سأسكن في أستراليا. حصل على الجنسية الأسترالية. عائلياً أصيب الكاتب بالمأساة كاملة: زواج محطم، وابن شاب يقتل في حادثة، وابنة جميلة تصاب بمرض قاتل، هو ناسك، راهب تقريبا: لا يشرب، لا يدخن، لا يأكل اللحم. أحاديثه مع الإعلام والصحافة نادرة، اعتذر عن عدم حضور احتفال تسليمه البوكر. وفى تسلمه نوبل شكر الأكاديمية السويدية، ولكنه تساءل: لماذا لا تقدم نوبل جوائز للفلسفة.. أو الموسيقى!!
له أكثر من 15 عملاً روائياً وقصصياً. يرى أن هناك مادة من السيرة الذاتية وراء كل كتابة إبداعية. كما أن له حوالى أربعة كتب تروي سيرة حياته من الصبا حتى الآن. حيث ينشر مراسلاته الشخصية مع أهم كتاب الولايات المتحدة. يمارس رياضة ركوب الدراجات، ويجلس إلى المكتب ساعات مقدسة كل صباح. خطاب الأكاديمية الذي منحه جائزة نوبل يشير إلى ثلاث روايات (فى انتظار البرابرة 1980 – حياة وزمان مايكل. ك 1983 – العار 1999)، ويشير إلى أن أعماله تقوم على الحوارات المنتقاة أو البنية السياسية المثيرة التي تفتح أبواب العذاب الإنسانى وجحيم الاضطهاد.
«فى انتظار البرابرة» عنوان أشهر قصائد الشاعر اليوناني السكندري«كفافي» ولكنه يحمل في الرواية بعض آثار من «فى انتظار جودو» لبكيت، وآثار أخرى من رواية الإيطالى دينو بوتزالى «صحراء التتر»، المهم أننا أمام عمل روائي فريد يجمع بين الإثارة السياسية والألم والعذاب الإنسانى والتأمل الفنى الخارق للطبيعة والصحراء والغابات التي في الخارج والتى في داخل النفس البشرية.
تُجري الأحداث في مدينة صغيرة، لا اسم لها، تقع على حدود إمبراطورية عظمى، لا اسم لها. يدير شؤون المدينة قاض ورئيس مدينة يجمع الضرائب ويحل الخلافات الصغيرة. فجأة يهبط على القاضي مسؤول كبير من العاصمة يقول إنه يعلن على الحدود كلها حالة الطوارئ، حيث إن الإمبراطورية مهددة بهجوم «البرابرة»، وإن هناك حملات عسكرية قادمة لصد العدوان وحماية الحدود . رجل العاصمة القادم يحمل كل خصائص رجل المخابرات، ويمارس على الحدود وفى المدينة نظام الاعتقال العشوائى والتحقيق والتعذيب لكي يستخلص من أناس بدائيين، يشتغلون بالرعي والزراعة البسيطة، اعترافات بأخطار وهمية ومؤامرات ضد الإمبراطورية.
القاضي لا يقبل هذه الأوهام ويقف ضد التعذيب، والإرهاب الذي يحول المدينة إلى معتقل كبير، يمارس رجل العاصمة فيه حفلات تعذيب رومانية لا مبرر لها.
في صفوف المعتقلين رجل عجوز وابنته. الرجل يستفز من تعذيب ابنته أمامه، وفى ثورة حمقاء يقاوم الجنود الذين يقومون بالتعذيب فيقتل، وتبقى الفتاة حيواناً برياً مصاباً في أقدامه وتكاد تفقد بصرها.
يقع القاضى المثالي المشغول بجمع تراث المنطقة وتاريخ قبائلها في شباك هذا الموقف الإنسانى المعقد.الوحيد الذي يحاول أن يضمد جراح روح وجسد الفتاة، وهو الكهل المثالى، فيقع في غرام جنسي عاطفى إنساني متشابك تستقبله الفتاة بامتنان واستغراب وفضول.أمام العلاقات الإنسانية المركبة، وبعد أن تتماثل جراح الفتاة للشفاء، يقرر القاضي إعادتها إلى قبائلها التي ترعى على الحدود،
تكون هذه فرصة الإدارة الإمبراطورية لاتهام القاضي بالتآمر مع البرابرة (الذين لا وجود لهم) ضد الإمبراطورية، فبعد أن يعيد الفتاة إلى أهلها، ويعود يقبض عليه، وتمارس ضده أغرب وأقسى أنواع التعذيب والإهانة لمجرد أنه مارس شعورا إنسانيا طبيعيا تجاه الأوهام التي يصنعها رجال الإمبراطورية لتبرير القهر والتعذيب والاضطهاد الذي يمارس كغطاء للاستغلال. يقول القاضي في حديثه مع نفسه، الذي لا ينقطع طوال الرواية:
«أتمنى لو أن هؤلاء البرابرة!! يثورون ويعلموننا درساً من أجل أن نتعلم احترامهم، رغم أننا هنا منذ مائة عام أو أكثر إلا أن هذه بلادهم ونحن بالنسبة لهم زوار عابرون، يوما ما سيكون علينا الرحيل».
«القوة العسكرية لا ترى ذلك.. ترى أن هذه البلاد ملك لنا وأننا هنا مخلدون».
«غرام القاضى الكهل بالفتاة البرية لا يحجب خط العمل الأساسى الذي يناقش إنسانية نظام الحكم وأهداف السلطة».
نحن هنا أمام عمل أدبى فريد: بناء كلاسيكى متأثر بالشعر عند «ريلكه» وبأسلوب «فوكنز» في اللغة الكثيفة المحملة بالمعانى، مع عبثية ورمزية روبرت موزيل وبكيت، وروح جوجان، الرسام الساحر الذي نقل بدائية الغابة إلى قلب الإبداع الحديث.
بعد أن عشت مع الرواية أياما صعبة ممتعة، لا أعرف هل أنا أمام لوحة أم قصيدة أم منشور فكرى خطير يدين الحضارة الغربية.كوتزى عملاق نحيل يركب الدراجة ويقطع فضاء أستراليا بحثا عن شىء جديد. الكلمات الختامية في الرواية تقول:«أنا مثل رجل ضل طريقه منذ زمن بعيد، ولكنه يصر على المضى في طريق طويل قد لا يؤدى إلى أي مكان».
في انتظار البرابرة (رواية) ج. م. كوتزى. ترجمة: ابتسام عبدالله. المركز الثقافي العربي
المصري اليوم

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *