محمد عبده
أبدءُ من حيث انتهيت. البحرُ، والغِربان التى حامت فوق رأسى، وهذا المِلح المُترسب فى الحلق. حكوا لي فوق القبر أنني كنتُ ممداً قرب الشاطىء، والرمال كادت أن تسُد أنفىِ الغليظة. لا أتذكرُ ما حكاه أبى عن هذا اليوم .. أو ماحدث، لكننى لا أنسى، وأظُننى لن أنسى بعدها طيلة وجودى هذا الشعور المميت بالعطش، لعللنى أستشعره الآن وأنا أصعدُ إلى السماء. كان حَلقى جافاً و كأنه يحوي قطع جمرٍ ملتهبة فى جوفِه. لم أجد غير مياه البحر بعد أن أصابنى وخز أسفل الظهر. بدء خفيفاً ثم تحول إلى ألم ثم قيّدنى الشلل. جسدى الهزيل قد تيبسَ، ولم أعد أستطع الحراك، إلا أن مياه البحر داعبت شفتى. كان العَطشُ يقتُلنى أكثر من ألم الشلل وصدمته. لهثتُ بلساني بحثاً عن المياه بين حبيبات الرمل، وزاد الموج، و غمر وجهي المغموس برمال الشاطىء، فشربت.
لم ينقطع العطش .. أشربُ أعطشُ، أشربُ أعطشُ، وتزيد الصحراء جفافاً. أذكُر هنا .. أو ربما وقوفِها فوق قبرى الآن هو الذى عاد بى إلى عالم الموجودات، حيث راودتنى فى موتى قُرب البحر، فوق الرمال. كانت فى أوج زينتها بطولهِا الفارع و المرسوم بإيدى الطبيعة. كانت تشاهد جسدى الهزيل وتبتسم .. أو كأنها تبتسم، قد تكون هي التى أطرحتنى أرضاً، أو سَقَتنى نبيذيها العَذب ثم قطعته، وتركتنى وحيداً هائماً أبحثُ عن أثرٍها فى صوت البحر تحت ليلٍ غائم. لم يحملنى سوى أبى باكياً، ورُغم قوة بنيانهِ وكفيه المشقوقين من أثر الزمن، والجَلَد، ورُغم ضعف جسدي و هزلِانه إلا أن همهمة بكاءهِ، وخور جسدِه فى تلك اللحظة كان شديداً قبل أن يردم تراباً فوق التراب. وددتُ لو خرجت من عدمى لأسأله .. هل هى جاءت بالخارج لتودّعنى ؟! تمنيتُ لو اتشحت بالسواد ليعكس بياض وجهها و قمريته. تمنيتُ لو وقَفَت فوق قبري، فأشعرُ بعلوِها، وخفة وزن الأشياءِ فوقي. هاجسٌ ما راودنى أنها ليست بالخارج، وأنها لن تأتِ، وأنها أيضاً تتألمُ إلى حد الموت. أودُ الآن أن أحنو عليها، ربما أمسحُ شَعرِها و أوقفُ سيل الدموع، فأنا خفيف الآن. لا أشعرُ بجسدى و قيدِه. أنا أطير الآن إلى السماء، وأرى من علو شاهق .. أرى أبى يحنى ظهرهُ العريض ليردم فوقي التراب.