شيرين عبده
كثيراً ما يُربط الجنون بالإبداع. ربّما بدأ ذلك بطريقة واعية منذ المقولة القديمة “ما من إبداع دون مسّ من الجنون”. ومع تطوّر علم النفس، تمّ ربط الإبداع بالمرض النفسي عموماً، لتُصبح الحالة الإبداعية رديفة الاضطراب، فيما ارتبطت قلّة الإبداع بالرتابة. قد لا يكون سبب هذا الربط سوى خلط بين المرض (كونه خروجاً عن الصحّة كقاعدة) ومحاولات الاختلاف والخروج عن الأطُر المجتمعية. تتقاطع الموسيقى بقوة مع الدراسات العلمية المنجزة حول العلاقة بين الإبداع والاضطراب النفسي. فإلى جانب كون الموسيقى حالة إبداعية، هي أيضاً وسيلة علاجية للاضطرابات النفسية، سواء كممارسة أو كسماع. لكن، لم يجرِ حتى الآن تطوير إجابات شافية حول تفاعل الاضطراب النفسي مع الموسيقى، وذلك ضمن اللغز المحيّر الكبير الذي يرافق هذا الفن وعلاقته بالمكانيزمات النفسية. يقارن بعضهم الموسيقى بتعاطي الكحول والمخدّرات، ولا يخلو تاريخ الفن من نماذج تؤكّد هذه العلاقة دون أن تقدّم تفسيراً لها. فقد أُصيب بيتهوفن بالصمم، فلم يعد متاحاً له أن يؤلّف موسيقاه سوى على إيقاعات قلبه، ومنها استنتج الأطباء طبيعة الأمراض النفسية والجسدية التى عانى منها، فقد كانت في الغالب غير منتظمة. يؤكد المؤرّخون أن موزارت عانى من نوبات الاكتئاب ثنائي القطب، كما أن رحمانينوف أهدى إحدى أجمل مقطوعاته إلى طبيبه النفسي المعالج، ما يشير إلى تردّده المستمر عليه. وعانى تشايكوفسكي من الكآبة واضطرابات نفسية عنيفة عقب إسقاط اسمه من جمعية كبار الموسيقيين في روسيا، وأيضاً حين وصفت مؤلفاته ذات مرة بأنها ركيكة البناء. في الزمن القريب، وعلى العكس من تشايكوفسكي، لم يتأخّر المعاصرون عن فهم أعمال مبدعين ومكّنوهم من أعلى درجات التقديس، فتحوّل بعضهم إلى أساطير حية، لكن ذلك لم ينهِ تلك المعاناة مع المرض النفسي. نتذكر هنا ألفيس بريسلي ومايكل جاكسون وإريك كلابتون وسيد باريت (مؤسس “بينك فلويد”) وأوزي أوسبورن وراي تشارلز وجون لينون وإلتون جون وجون بونام. تراوحت معاناة من سبقوا بين الإصابة بالاكتئاب والتوحّد بدرجاته وإدمان الكحول، وأدّت ببعضهم إلى الانتحار مثل داليدا وكيرت كوباين. لم يقتصر هذا الاضطراب الذي تفرزه الموسيقى على المبدعين فقط، فقد سجّل التاريخ حالات غريبة لأغانٍ بدت وكأنها تدعو مستمعيها إلى الانتحار، مثل الأغنية الهنغارية الأشهر “الأحد الكئيب” التي تمّ منعها من الإذاعة الأميركية بعد تسبّبها في موجات من الانتحار العنيف في ثلاثينيات القرن الماضي، شملت أيضاً مؤلّفها وكاتبها وبعض من غنّوها. كما تحضر أيضاً “حلّ الانتحار” لـ أوسبورن، وكذلك “خاسر” لفرقة “ثري دوورز داون”. ومن أحدث القطع الموسيقية المثيرة للجدل، تلك المرافقة للعبة “بوكيمون” اليابانية “ثيمة مدينة اللافندر” والتي قيل إنها تسبّبت في انتحار عدد من الأطفال. تبقى تلك الأمثلة محيّرة للعلم؛ فهي تمحو الحدود التي تفصل بين كون الموسيقى نتيجةً للاضطراب النفسي، أو سبباً له.
العربي الجديد