قلب الأم


*إبراهيم البوزنداكي

( ثقافات )

تلقيت اليوم رسالة من بلدتي. البلدة التي لم أزرها منذ ما يزيد عن خمس عشرة سنة. البلدة التي ولدت فيها وترعرعت بين طرقها المتعاكسة الكثيرة. بلدة الرياح و العجاج و القيظ.
جل الناس سيقول عني إنني لست ابن أصول لأنني أهجوا مسقط رأسي، لكنني أؤكد لكم أنني ابن أصول وأعرف ما هو حب الوطن و الحنين إليه. لكنني إنسان يحب الحقيقة البراقة، دون تزويقات و دون مكياج و دون مجازات. بلدتي هي كما وصفتها تماما دون زيادة و لا نقصان. صحيح أن أهاليها أناس طيبون كرماء لكنهم صارمون. يبدو أنني واحد منهم و أشبههم في كل هذا الحزم الذي أمتلئ به.
الرسالة مرسلة من مركز البريد الواقع في مدينة الصويرة، أقرب المدن إلى البلدة، و عليها عنوان الجمعية الخيرية لبلدتي.
صدمت عندما رأيت العنوان لأن هذا يعيد إلي ذكريات أليمة لم أعد أريد تذكرها. ذكريات سخيفة كنت ألقب فيها بابن العوراء.
كنت طفلا صغيرا في الابتدائية، أرقب أولاد الناس الآخرين يلبسون أفخر الثياب في الأعياد و المناسبات و يقضون العطلات الصيفية في المدن المجاورة و حتى البعيدة كمراكش، أما أنا فمحكوم علي أن ألبس جلبابا مرقعا و قمصان اشتريت من “الجوطية”، سراويل فضفاضة جلها لابن الحاج موسى الذي يتفضل علي بملابسه القديمة و التي أصبحت أصغر و أضيق من أن يلبسها، فيعطيها لي و غالبا ما يمن بها علي أمام الأطفال الآخرين ليشعرني بمذلتي و نقصي، فأشعر كأنني ذبابة لعينة تعيش على قمامات الآخرين.
كانت أمي، وهي عوراء ، تعمل بالخيرية التي يأتي إليها التلاميذ من الدواوير النائية ليتابعوا دراستهم في الإعدادية الوحيدة الموجودة بالمنطقة. يحجون من أماكن مختلفة، بعضهم عرب و بعضهم الآخر أمازيغ يلتقون هنا ليكونوا عائلة كبيرة، لكل واحد منهم فيها دور.المشكلة أن أمي ليس لها من دور في تلك الأسرة الكبيرة إلا كونها طاهية الخيرية.
ورافقتني تلك اللعنة، فلا تسمع إلا من ينادي: – واولد العورا.. فينك اولد العورا..، صغارا و كبارا، حتى أصبح المعلمون أنفسهم ينادونني و يلقبونني بذلك، فكانت عقدة لازمتني مدة طويلة أفضت مما أفضت إليه إلى مقت أمي لأنها جلبت لي هذا اللقب.
استغربت كثيرا من وصول الرسالة لأنني انقطعت عن البلدة و عن أهاليها، فلا أظنهم يعرفونني أين أقيم، اللهم إلا الديربي الأعرج والد أعز أصدقائي منير، الذي ساعدني كثيرا أيام الجامعة، عندما كنت في أشد حالات الضيق و البؤس، حتى اضطرتني الظروف على احتراف بعض أنواع التسول و النشل و أشياء أخرى أخجل من ذكرها الآن بعدما أصبحت مدرسا محترما و حظيت بلقب أستاذ.
قلت إن الديربي و هذا لقبه أو اسمه العائلي، هو الوحيد الذي يعرف أين أقيم لأن ابنه منير أرسله إلى عندما كان مريضا لأرافقه للمستشفى، و لأنني أعرف أين ادخل و أين أخرج و خزعبلات أهالي البلدة. لم استطع أن افعل شيئا عندما وجدت وجهه أمام العين السحرية لباب منزلي إلا أن استقبله. صحيح أنه وجه يذكرني بالماضي المؤلم و الذكريات التي أردت مسحها من ذاكرتي بشدة. لا تعجبوا فبعض الذكريات يكون أفصل لو استطعنا مسحها من أدمغتنا لأنها تسبب الألم. كثيرا ما ذهب بي الخيال بعيدا في هذا الأمر، و فكروا معي لو كان بإمكاني اختراع آلة تمكننا من مسح الذكريات التي لا نريد، كم سيكون الأمر جميلا، ستكون آلة رائجة فعلا، لأنني أتصور أن الكثيرين يودون لو يمسحون جزءا من ذكرياتهم دون أن يستطيعوا.
عندما سقطت الرسالة أسفل الباب، وكانت هذه عادة سيئة من عادات الساعي عوض أن يضعها في التجويف الخاص بالرسائل، أخذها ابني الأصغر يلعب بها و يحاول أن يقطعها فأبت عليه لأن يده الصغيرة الطرية غير قادرة على لي الورق بالشدة المطلوبة، فألقاها جانبا غير مبال. لما رأيتها أخذتها بين أصابعي و قرأت العنوان فاستولى علي الدهش، لأنني نسيت تماما أنني ابن تلك المنطقة، و أنه يمكن أن تأتيني منه رسالة. ثم ما معنى إرسال رسالة في الوقت الذي يمكن فيه الاتصال الهاتفي و الالكتروني ببساطة كبيرة؟؟
كان العنوان مكتوبا بيد ثابتة قدرت أنها لرجل قوي الشخصية لا يتردد في كتابة الحروف ثانية واحدة. بدا ذلك جليا في كتابة اللام و الكاف بشكل خاص.
فضضت الغلاف الخارجي، ووجدت بداخله ورقة بيضاء مما يستعمل في الإدارات و المكاتب. قرأت فيها ما يلي:
بسم الله الرحمان الرحيم
بعد الصلاة و السلام على المصطفى و آله و حمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، أود أن أستدعيكم، أنت السيد حمان العيلي، طبعا إن لم تكن غيرت عنوانك، إلى المجيء إلى مسقط رأسك لأمر شديد الأهمية. هذا الأمر يخصكم وارتأيت كرجل سلطة أن أرسل إليكم بنفسي. لا تؤاخذني إذ أرسلت إليك رسالة و أعرف أنها لن تصل بالسرعة المطلوبة، لكن ليس لدي غيرها إذ لا أحد في البلدة لديه رقم هاتفك إلا صديقك منير و هو كما تعرف بالديار الفرنسية، وحتى هذا العنوان لولا الديربي جزاه الله خيرا لما كان بإمكاني إرسال الرسالة.
هذا و أؤكد أنه أمر هام جدا يستدعي حضورك فور تلقيك للرسالة..
و السلام
قرأتها ثم بدأت أفكر في الأمر الهام جدا الذي يستدعي حضوري الفوري. ثم إن كاتب الرسالة هو” الشيخ” بما أنه قال إنه رجل سلطة، هو و ليس غيره. لكن لماذا لم يشر إلى أمي وهي تعرف عنواني. ربما لم تقل لهم إنها زارتني أو أنها قالت إنني نسيتها و لا تعلم أين أنا.
عندما وصلت بتفكيري إلى هذا الحد، طغى وجه أمي على كل الصور. لم أستطع محو صورتها من ذاكرتي مهما حاولت، بعينها العوراء و شعرها المعقوص و لحافها الأسود المنفر.
كانت قد زارتني في أحد الأيام وعاملتها كالكلب الأجرب. كنت فظا غليظ القلب مستحضرا كل القساوة التي اكتسبتها من الشوارع أيام الضياع. حملتها مسؤولية كل شيء سيء وقع لي و صرخت في وجهها أمام عتبة الباب :
– لماذا جئت، أترغبين في إفزاع أبنائي، أم أنك ترغبين في أن يلقبوا أيضا بأحفاد العوراء؟
و أتت زوجتي مهرولة لتعرف ما يحصل و بين يديها ابني الرضيع الذي ولد منذ أشهر قليلة. و صرخت في وجهها هي الأخرى آمرا إياها بإدخال الرضيع لكي لا تصيبه العين.
دخلت مسرعة، و عندما عادت وجدتني مازلت أكيل أنواعا من الكلام القادح لأمي و هي لا تعرفها طبعا، و تدخلت هي الأخرى و حاولت أن تهدئ من أعصابي، سألتها:
– من أنت و ماذا تريدين؟
ولأن أمي أطيب أهل الأرض، و أحسن من قابلت من الأحياء خلقا، غضت من عينها السليمة و أجابت:
– كان سوء تفاهم، غلطت في العنوان و يبدو أنني أشبه شخصا آخر لزوجك أساء إليه. لذلك فقد أعصابه أمامي. إنني أعتذر.
و تولت مسرعة لا تلتفت.
كانت تلك زيارتها الأولى و الأخيرة لي، و أنا لا ألومها على ذلك بعد القدح و الكلام الجارح الذي تلقته من ابنها الأوحد الذي تعذبت من أجل تربيته، فما كان منه إلا أن هجرها و نسي أن له أما. حرمها من أن تكون أما، و لما حاولت أن تجرب معنى أن تكون جدة، حرمها من تلك العاطفة أيضا، و أسمعها كلاما لا يليق أن يقوله الناس لأعدائهم ناهيك عن أمهاتهم.
و شكت زوجتي في ما قالته، وحاولت معي مدة طويلة أن أقول لها من هي تلك المرأة التي فقدت أعصابي بمجرد رؤيتها، لكني كنت شديد الحرص على قطع كل صلة لي بها، وادعيت كذبا أنها متسولة غريبة وجدتها تقلب في أواني الزهور الموجودة أمام باب المنزل. لم تصدق كلمة مما قلته، لكنها قرأت الإصرار في عيني، فما كان منها إلا أن استسلمت. 
و لم أتذكر أمي مطلقا بعد ذلك إلا بعد أن استلمت الرسالة. تفكرت في الأمر لحظات و أحرقت الرسالة خشية أن تقرأها زوجتي ونسيت الأمر تماما، إلى أن ألح علي شيء ما لا أدري ما هو. يومان و أنا أفكر لماذا أريد القطع مع ماضي و مع أمي؟ لماذا كل هذه القسوة؟ لماذا أحرمها من رؤية أحفادها؟ 
أخيرا قررت أن أذهب لأعرف ما الأمر المستعجل بعد أن مضت ثلاثة أيام على وصول الرسالة إلي، وإن كنت أعتقد جازما أنه يتعلق بأمي.
لم أخبر زوجتي بالمكان الذي سأقصده، قلت لها إنني سأذهب لزيارة أحد أصدقائي القدامى لأنه مريض، و أنني سأمكث عنده يوما أو يومين على أقصى تقدير.
و لأن اليوم يوم سبت، لم احتج إلى تبرير لغيابي لأنني أصلا لا اعمل يوم السبت. لمعت حذائي و لبست قميصي الجديد و بذلتي السوداء، وأخذت حقيبتي الصغيرة المعدة دوما من أجل الأسفار الطارئة. ألقيتها فوق كتفي الأيسر وخرجت .
— — — — — — — — — —
سرت على قدمي في طريق محطة الحافلات. أخذت أفكر في الطريقة التي يمكنني أن التقي بها أمي بعد كل ما فعلته بها. لم أتوصل إلى أي صيغة تمكنني من الدخول إلى البلدة و لقاء أمي و كأن شيئا لم يكن. وقفت في وسط الطريق و ترددت. فكرت في الرجوع إلى بيتي و نسيان أمر الرسالة اللعينة، وليذهب “الشيخ” و أمره المستعجل إلى الجحيم. لكن لا، لماذا التمادي في الباطل؟ أنت تعرف يقينا أن أمك ليس لها من أمر ما حصل لك من الشرور شيء، هل هي من اختار العور و العوز؟ إنها المقادير و لا دخل لأحد بها.
كنت أقدم رجلا و أؤخر أخرى، و أنا أفكر في كوني واقعا في تناقض صارخ بهذا السفر إلى البلدة. لقد آليت على نفسي ألا أتذكرهم و أن أقطع تلك الصلة القديمة المشوهة، إذا بي فجأة آخذ طريقي إليهم و كأنني ابنهم البار الذي رجع من غيبة و غربة طويلتين. عدلت فجأة إلى مقهي في جانب الشارع و طلبت قدحا من القهوة المركزة.
أخذت أقلب الفكرة في ذهني مرارا، فأحسست أنني بحاجة لشخص أتشاور معه ، و أنني في هذه اللحظة و أمام هذا الأمر بالذات طفل صغير غر لا يعرف شيئا. لذلك كان لزاما أن أفضي به لشخص أثق به لينصحني و لأتفادى التمادي في الخطإ، ليطمئن قلبي.
أخذت الهاتف و بدأت أبحث في الريبرتوار و أمرر الأرقام. ترى ما هو الشخص الذي سيخلص لي النصح؟
فكرت في منير. لكنه الآن بعيد يستمتع في الجنة الأوروبية. فكرت في أشخاص كثيرين، لكنهم جميعا لا يعرفون عني هذه الأشياء، لذلك استبعدتهم جميعا و نظرت إلى زبائن المقهى بحثا عن خلاص بينهم. 
بدا لي شيخ كبير معمم جالس بوقار في إحدى زوايا المقهى، وحيدا شاردا، بدا لي كأفضل الفروض. نهضت بتثاقل و معي حقيبتي الظهرية الصغيرة و اتجهت إليه.
جفل قليلا عندما رآني أستعد للجلوس إلى مائدته واقتحام خلوته عليه. أراد النهوض، لكنه عجز لضخامته و لأنني ضغطت على المائدة محاصرا إياه في الركن الذي اندس فيه.
قلت له بلطف لا يخفى:
– لا تخف، أنا أريد فقط استشارتك في أمر يخصني، لأنني توسمت فيك الخير.
رمقني بنظرة يملأها الخوف و الدهشة. قدرت أنه رجل لم يجل و أنه بلدي أصيل. فكرت أن هذا أفضل، لأنه سيكون على فطرته ولم تدنسه المدنية و المادية. ربما ينصحني أحسن مما قد يفعل أحد معارفي.
احتفظ بالصمت، فارتأيت أن أشجعه فسألته إن أفطر. حرك رأسه وقال في نفس الوقت إنه لم يفعل. طلبت منه أن يفطر على حسابي. و لأنه على الفطرة نادى النادل على الفور و طلب إبريق شاي و طبق أومليت. قال بعد أن استوثق من أمانه:
– في أي أمر تريد استشارتي يا بني؟؟ 
و بدأت أقص عليه قصتي وهو يحوقل و يحشو فمه بالخبز و البيض و يصب عليهما الشاي و كأنه لم يأكل منذ زمن.
و لما عالج جوعه، تجشأ غير مبال بوجودي جواره، مسح فمه بقطعة ورق كانت في صينية الشاي.قال بعد برهة صمت أخرى:
– هذا غريب، يبدو أنني أفطرت على حساب عاق لأمه.. 
و أردف بعد هنيهة بسيطة من الصمت: مسخوط الوالدين..
على إثر هذه الكلمة الفظة منه نهض، وتركني مشدوها فاتحا فمي ببلاهة.
ورغم هذا التقريع النابي الذي طالني من الشيخ المعمم خرجت بفائدة. أدركت أن الإنسان مهما سعى في مصلحة غيره نادرا ما يفوز بالشكر. ثم إنه بهذا العتاب الذي أتى على شكل شتيمة أراني الطريق التي يجب علي أن أسلكها لأمحو ما فعلته في الماضي. 
دفعت ثمن الفنجان و ثمن ما أكله صاحبنا الذي لم تفسده المدنية و أكملت طريقي في اتجاه المحطة.
— — — — — — — — — 
و لأنني أحب مراقبة الأشجار تسير و أعمدة الكهرباء و الهاتف تتراءي و كأنها تعدو واحدة في إثر الأخرى، مشاهد الجمال التي تروق لي. حقول على مد البصر بعضها أخضر، و البعض الآخر مازال ينتظر السماء. أبقار ترعى و أطفال يلعبون و يجرون و ينادي بعضهم البعض الآخر. بعيدا على ربوة يمسك أحد هؤلاء طيارة ورقية و يحاول جاهدا أن يطيرها و هي تأبى، و الطفل لا يعرف السبب. لكنه مستمر بالجري و جر الخيط… و لم أستطع أن أكمل المشهد لأن الحافلة مرت. 
قلت لأنني أحب مراقبة مثل هذه المشاهد دوما ما أحرص على الجلوس في المقعد الملاصق للنافذة، و في هذه المرة أيضا فعلت، لكن يبدو أنني أخطأت إذ بدأت الشمس تلسعني و كان الجو قائظا رغم أن الفصل فصل ربيع. كانت ستارة نافدتي منتزعة و لم أجد ما أتقي به الأشعة الثاقبة إلا حقيبتي. 
بجواري جلست عجوز مجعدة الوجه نافرة العروق قصيرة القامة، ينحني رأسها على صدرها و كأنها تنظر إليه. إنه الزمن يا بني، العدو الأول للشباب و الجمال. ليتنا نستطيع إيقاف الزمن لنستمتع بالشباب لأطول مدة ممكنة. أخرجت من حقيبة يدها كيسا بلاستيكيا أسود خمنت فورا لأي شيء تريده. لابد أنها من النوع الذي يشعر بالدوار و يتقيأ في الحافلات. لم أتمالك نفسي ووقفت باحثا بعيني عن مقعد شاغر لأنتقل إليه. لما لم أجده جلست مجددا و فوضت أمري لله. 
صار كل شيء بخير و أنا مستمتع بالنظر إلى الأرض التي تجري و النساء المشتغلات بالحقول وهن يرددن أغاني لا أسمع إلا مقاطع منها للسرعة التي تمر بها الحافلة. وصلنا إلى واد يبدو أن أشغال الإصلاح مازالت جارية في القنطرة التي تمر من فوقه، لذلك عبدوا طريقا مؤقتة خلال الوادي. تأرجحت الحافلة مرتين و استوت لتتأرجح من جديد. هنا لم تستطع العجوز أن تكبح القيء أكثر من ذلك فأسرعت تفتح الكيس و تفرغ ما في جوفها بداخله.
وا رباه !! كم تبدو رحلة جميلة منذ البداية! واستمرت العجوز بإفراغ الفطور الدسم الذي تناولته داخل الكيس الذي أوشك أن يمتلئ. تقززت من المنظر و استطعت بعد جهد مضن أن أمنع نفسي من الانضمام إليها.
استعدت طرفا من نفسي بتخيل أشياء جميلة، لأنسى أنني بحضرة عجوز قميئة متقيئة. ألصقت وجهي بالنافذة المهتزة مزيحا الحقيبة، و أطلقت طرفي يهيم في الفضاءات الفسيحة. كانت الحافلة قد وصلت إلى أرض خلاء لا يكسوها إلا عشب يكاد يكون لونه أسود، فتكدرت نفسي لما مسها من القبح، فأغلقت عيني ألتمس الهناء في الخيال. 
ما إن فعلت حتى سد علي وجه أمي أفق التخيل، و تجلى أمامي كما لم أره من قبل بكل التفاصيل الدقيقة، وارتسمت على ملامحه الوادعة بعض الصرامة و الغضب الذي لا يكاد يستشفه إلا ذوو الخبرة. تغضناتها، ظلال محجريها الواسعين، خدودها الرخوة المدلاة، أشياء تضفي عليها نوعا من الحزن الآبق الذي يأبى المغادرة.
و لم تغادرني إلا و أنا افتح عيني لأجد الحافلة تئن محاولة أن ترتقي الجبل حيث تقع بلدتي. استعددت لأنزل في مشارفها حيث تقع الطاحونة القديمة و حوض إبليس، لأمنح نفسي فرصة التفكير فيمن أذهب إليه في البداية.
و لما بدت مخايل البلدة تتراءى من بعيد رجوت السائق أن يتوقف و نزلت من درجات الحافلة ببطء مثير بدا معه السائق متبرما مهتاجا و كأنه يخاف التوقف في بلدتي المسالمة.
أدرت البصر فيما حولي فاستغربت المنظر الجديد، هاهو حوض إبليس لم يمس رغم كون جانبيه قد وصلهما البنيان. و الطاحونة ! لم يعد لها وجود. هناك بنيت منازل على شاكلة صفوف، وفي أسفلها مجلات معدة للتجارة لكنها كلها دون استثناء مغلقة. نظرت إلى حوض إبليس و لم أملك نفسي من الابتسام. لقد تغير الناس بحق ! من قال إنهم لا يفعلون؟!
كان هذا الحوض مقدسا من الأهالي أيام كنت طفلا، أسبغوا عليه نوعا من التبجيل المشوب بالخوف. يقيمون حوله حفلا كل سنة سميناه موسم الحوض. يحضر إليه الناس من الدواوير المختلفة و بينهم رجال يدعونهم بالبهاليل، يكونون عادة أربعة، فيأخذون في الرقص من حول الحوض و الناس على شكل حلقة يتفرجون. هؤلاء البهاليل لديهم فرقة خاصة بهم يضربون الدفوف و طقطقات يدخلون فيها أصابعهم، فتحدث نغما لا يتكافأ إلا عندما يتدخل صاحب الناي و بعده بقليل ضارب الطبل. حينذاك يأخذ البهاليل نوع من الجنون فيرقصون و يؤرجحون رءوسهم و أيديهم أو يركعون و يستقيمون بسرعات غريبة حتى يقعوا فاقدين للإدراك.
تنتطر جموع الناس أن يفيقوا صامتين واجمين و كأن على رؤوسهم الطير، تنهر النساء كل طفل تسول له نفسه أن يتحرك أو يتكلم. و عندما يفيق أول البهاليل ينظر في وجوههم نظرة شاملة وافية ثم يخطب فيهم، و دائما ما يختمون تلك الخطب مشيرين إلى الحوض، فيبدأ الناس بإلقاء الحجارة.
هذا الطقس الغريب لم أستطع أن أفهمه بعد أن تعلمت، لم أعرف لماذا يسمون ذلك الحوض المبني بالحجارة بحوض إبليس؟ ولم أجد علاقة بين كل ما يفعلونه في ذلك الطقس الغريب. من التصرفات الغريبة مثلا، أنهم يتجشمون عناء إنزال أي مولود جديد إلى ذلك الحوض بمجرد مرور العقيقة، يتركونه هناك لمدة يسيرة ثم ينزل إليه أحدهم ليأخذه من جديد. فكيف وهو مرتع لإبليس ينزلون إليه مواليدهم؟ أمن أجل بركات الشيطان؟ 
لم أكن كسولا إذ بحثت في الموضوع عن كتب تتحدث عن المنطقةـ أو أبحاث اجتماعية أو مقالات. وجدت كتابين عن المنطقة لكنهما لم يأتيا على ذكر الحوض. بحثت مطولا و بعد مدة وجدت مقالة منشورة في إحدى المجلات المهتمة بالتراث، تكلمت باستفاضة عن عادات المنطقة و الفلكلور الخاص بها، و ذكر صاحبها ما يقوم به أهالي البلدة من الطقس الذي تحدثت عنه آنفا. ساق قصة طريفة لتفسير الاحتفال و البهاليل و رمي الأحجار. قال إن جيلا من الأولياء استوطن المنطقة و اتخذوها مركزا للدعوة فغضب عليهم إبليس، و لم تنفع معهم أحابيله و مصايده لصدهم عن الطريق و العدول بهم نحو الانحراف. بعدما يئس أتاهم بنفسه فأمسكوا به و سلسلوه وشيدوا من حوله الحوض لمنعه من الهرب. بعد ذلك اجتمعوا على شكل دوائر و رجموه بالحجارة. هذه القصة – رغم أنها من الخرافات- تفسر طقوس الرجم و الاحتفال، وحتى البهاليل يمكننا اعتبارهم من سلالة الأولياء أول مستوطني المنطقة. لكن يبقى طقس إنزال المواليد إلى قاع الحوض يوما بعد العقيقة لغزا مستغلقا لا يمكن فهمه.
بدأت أسير و أشاهد مناظر التغير التي طالت البلدة هنا و هناك. فكرت أن منزل “الشيخ” في الجهة الأخرى، و سيكون علي أن أمر بالبيت الذي سكنته أنا و أمي فيما مضى. ربما هي ما تزال هناك. إنها على الأرجح لم تغير من حياتها و مازالت الطباخة العوراء للخيرية. قررت آخر الأمر أن أذهب إلى بيت الشيخ عبر الطريق نفسها الذي يوجد به بيت أمي. جددت السير و الناس من حولي لا يلتفتون إلي و كأنهم ألفوا مجيء الأغراب إلى بلدتهم. تعرفت على الكثيرين دون أن أتحدث إلى أحد. هذا السي بوجمعة الفقيه، هذه لالا خديجة زوجة صاحب الفندق الوحيد بالفيلاج. وجوه كثيرة تعرفت إليها، و مررت بها دون أن أبدي أي سابق معرفة بهم. هم الآخرون لم يتعرفوا إلي أو أنهم أضربوا عن معرفتي بعد أن علموا ما فعلته بحق أمي و بحقهم أيضا. لبثت مدة و أنا أسير و كأنني مخدر لكون شريط الذكريات لا ينقطع. لم أفق إلا على صوت أذان الظهر فوجدت نفسي أمام بيت الطين العتيق نفسه الذي ترعرعت فيه. السقف الواطئ نفسه، و ميزاب الماء نفسه. و كأنها حياة أخرى عشتها هنا كاملة غير منقوصة.
ترددت بين طرق الباب و بين إكمال الطريق نحو بيت الشيخ. اقتربت من الباب و حزمت أمري مادا يدي المضمومة لدقه. طرقته مرات متتالية بخفة و لما لم يستجب أحد، دفعته بقوة فانفتح. دخلت و ذكريات الطفولة تحييني في كل مكان.وصلت إلى المراح الفسيح الذي توجد به شجرة الباباي و نباتات أخرى كانت أمي تعتني بها. 
وقفت هناك أقلب النظر بين الغرف المسدودة و الأتربة التي تغطي كل شيء و النباتات التي ذوت. انقبض قلبي رغما عني. شعرت أن شيئا ما لحق بأمي. لكم كل الحق في أن تستعجبوا أمري، لكن هذا ما حصل. أحسست بألم يعتريني و كأن قبضة جهنمية تعتصر قلبي. 
عدوت أفتح الأبواب المتهالكة للغرف و أنادي أمي لعلها تجيب، لكن ما من مجيب. وصلت إلى الغرفة التي تنام بها، و تذكرت أنها الغرفة الوحيدة التي لا يقطر سقفها أيام المطر.
ألقيت نفسي على السرير الخشبي القديم و ناديت بأعلى صوتي: أمـــــــــــــي، فلم تجب فأيقنت أنها غير موجودة. أرحت رأسي على المخدة الخاصة بها و رحت أتأمل السقف.
مددت يدي تحت الوسادة لأنني اعتدت ذلك عندما أهم بالنوم، لمست أصابعي ورقة مطوية. استويت جالسا و رفعت المخدة بإحدى يدي لأعرف ما يوجد تحتها. ألفيتها ورقة قديمة مطوية، بدا أنها في موضعها ذاك منذ فترة.
أخذتها في يدي و فتحتها فإذا هي مكتوبة بخط أمي. آه، أنا لم أخبركم أنها تقرأ و تكتب. لقد فعلت ذلك بعد مجهودات لأنها كانت تتولى تسيير المطعم، فخشيت أن يطردوها.
كانت الرسالة مكتوبة منذ مدة، لأن الحبر بدأ لونه بالشحوب. اصفرت الورقة و برزت فيها آثار بصمات على حواشيها من كثرة ما قرئت.
تنهدت بخفوت و شرعت أقرأ:
بسم الله الرحمان الرحيم
إلى حميمين، ابن بطني،
سلاما إليك من أم حكم عليها القدر بالوحدة القاسية. أنت حمان ابن حسن العيلي الذي توفي منذ زمان تاركا هذه الأمة تلعب دورين في الحياة: دور الأب ودور الأم.
و أنت تسألني كنت أكذب عليك مدعية أنه مسافر مثل عمك و هو في الديار الأوروبية متحينة فرصة نضوجك لأخبرك الحقيقة كاملة. 
مقتتني لأنني عوراء، و لأن الآخرين لقبوك بابن العوراء، فلم تستسغ ذلك و هجرتني إلى المدينة في أول فرصة لك و تركتني وحيدة أعد أنفاسي في خلواتي و ألتمس لك المعاذير أمام الناس و هم يدعونك بالمسخوط. دافعت عنك لأنك ابني الوحيد، و لم و لن ألد ولدا آخر.
لكنك تماديت، لم تراسلني و لم تكلمني و لم تسأل عني. تمنيت أن أراك إلى جانبي و أنا مريضة طريحة الفراش، مسلولة مفؤودة، لا يعودني إلا القلة من أبناء البلدة. و لولا ابنة أختي حماها الله التي اعتنت بي لأكلني الدود و أنا حية.
في طفولتك كنت تقسو علي و تعيرني بالعوراء، تدعي أنني أحرجك أمام الآخرين. و يوم أتيت لزيارتك بالمدينة عاملتني معاملة الكلاب و قلت كلاما قاسيا في حقي، لن استطيع نسيانه حتى يغيبني اللحد و الكفن. ألم يكن من حقي أن أرى أحفادي و استمتع بصحبتهم؟؟
قد لا أسامحك على بعض الأشياء، لكن ما فات قد مات، و لا يهمنك الآن إلا حاضرك.
لم تسألني يوما لماذا أنا عوراء، و لم أبادر أنا بإخبارك لأنك لم تكن ناضجا بعد. أما و قد بلغت هذا المبلغ، فإنني سأخبرك.
كنت تلعب مع أصحابك من الأطفال المشاكسين، و تتقاتلون كما تفعلون دوما إذ ضربك أحدهم بحجر ففقأ عينك. جئتني محمولا نازفا و عينك مفقوءة، فنقلناك إلى المستشفى و لكنهم ضربوا كفا بكف و قالوا إن الفتى سيصير أعور. فبكيت طويلا و استنجدت بعمك و هو حينذاك بالبلد في عطلة صيفية.
كان عمك مصطفى يحبك لأنك وحيد أخيه، فلما عرف بذلك سافر بك إلى مراكش ثم إلى الدار البيضاء، لكن دون جدوى. لم ييأس، و استمر يستشير الأطباء في حالتك هناك بفرنسا حتى أخبروه أن بالإمكان زرع عين أخرى لك، لو وجد المتبرع الملائم.
هكذا سافرنا أنا و أنت إلى فرنسا، أنا بصفتي المتبرعة و أمك في نفس الآن و أنت بصفتك المتبرع له. هناك أخذوا عيني اليسرى و أنا مسرورة أنك لن تبقى أعور مدى الحياة. مكثنا هناك مدة عام كامل، نمت جله بالمصحة. بعد خروجك منها، رجوت عمك أن يدعك هناك معه، لكنه رفض بفضاضة.
هذه هي القصة، و قد رجوت عمك أن لا يخبرك حتى أفعل أنا، هو أيضا لا يحبني و لا يحتملني على كل حال.
ابني العزيز، 
ثق أنني، رغم كل ما فعلته بي، رفيقة بك، و أسامحك على شرط أن ترمم هذا البيت و تقوم بزيارته أنت و أولادك كلما سنحت الفرصة. أرهم مسقط رأسك وافتخر به، لا تبق على كراهيتك و مقتك لي و لأهالي البلدة. يومذاك سأعلم أنني خلفت من ورائي ولدا.
أخيرا أتمنى لك و لأولادك السعادة الدائمة.
أمك العوراء
كنت أقرأ و عيناي تدمعان و الألم الممض يعتصر قلبي. شتمت نفسي و قسوتي و شقوتي، شتمت عمي الذي لم يخبرني و قد زارني في المدينة مرتين. ألقيت نفسي على الوسادة و استسلمت لبكاء مرير دام طويلا، حتى بللت أطراف الوسادة بالعبرات الحارة.
تمنيت حينذاك أن تكون مازالت على قيد الحياة. تفكرت رسالة الشيخ، فقمت مسرعا و غسلت وجهي ثم يممت شطر بيت الشيخ.
أخبرني بعد أن قدمت إليه نفسي أن أمي ماتت منذ أسبوع، و أنهم دفنوها دون حضور أحد من أقربائها و كأنها قطعت من شجرة، اللهم إلا زوج ابنة أختها.
قال لي كل ذلك على عتبة الباب، وولى عائدا إلى داخل البيت. حاول أن يغلق الباب في وجهي، لكنني منعته بيدي متسائلا:
– أيمكنك أن تدلني على مكان قبرها؟؟
ضحك ضحكة غريبة تجمع ما بين السخرية و الرثاء، تأمل في وجهي و رأى قسماته المتألمة فأشفق علي.
دار على عقبيه وخرج. أغلق الباب من ورائه و قال لي:
– هل ستبرها الآن بعد أن ماتت، لقد تأخرت يا بني، كان عليك أن تأتي قبل اليوم.
رافقني إلى المقبرة و أشار إلى قبر جديد مازالت فوقه ورقات من الجريد.
تركني وحيدا مع قبر أمي و انصرف. جثوت على القبر أناجيه كالمجنون و أطلب السماح و الغفران. استعبرت عيني اليسرى و سالت دمعاتها غزيرة على وجنتي، فأيقنت أن أمي قد تأثرت و أن قلبها المليء بالحنان سر برؤيتي، كيف لا و هذا القلب نفسه هو من أملى عليها خطة التبرع بأحب الأعضاء. أي كرم و أي إيثار؟ أي قلب هذا الذي يستطيع أن يؤثر على نفسه؟ إنه قلب الأم.
هنالك أيقنت أن القلب الذي أحبني من أجل الحب قد دفن، فقررت أن أنفذ كل ما طلبته مني و أسرعت إلى المنزل باحثا لعلي أجد صورة تذكرني بها، ففاضت عيناي مرة أخرى و أنا أحس أن عين أمي أكرم من عيني و أن دمعاتها تحرقني فاستسلمت وغرقت في بحر الدموع.. 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *