* خليل قنديل
إن هذه الموسيقى التي تسمى بالموسيقى العربية التي ملأت أسماعنا لما يزيد على نصف قرن أو ما يزيد، باتت تستحق بالفعل مواجهتها بالأسئلة المباغتة والطارئة، وباتت تستحق بالفعل أن ننبش مساراتها وتحولاتها، وتلك الينابيع المزوّرة التي تتدفق منها. وأنا مازلت استذكر الملاحظة الواعية التي قالتها الراحلة د. رتيبة الحفني مديرة دار الأوبرا المصرية في حوارية تلفزيونية عن الموسيقى العربية، انها موسيقى تخاطب الأذن اولاً ومن ثم تنتقل للاذرع والتصفيق، وقد تجعل المستمع ينتصب واقفاً لينقل انفعاله الاستماعي الى ارجله، بحيث يتحول الاستماع الى «دبكة»!
وعلينا أن نعترف هنا ان حالة التجلي التي تذهب فيها الموسيقى العربية بنا الى هذا المستوى الجسدي هي حالة مشبوهة بامتياز. وهي على الأغلب تعتمد في نهجها على الايقاع وهو القادر الوحيد على إيقاظ الجسد بالاستجابة.
مع ان الأصل في الاستماع الموسيقي هو ان يذهب الى الأذن حيث الفلترة الأولى للنغم وإحالاته الوجدانية بهدف الذهاب الى مفاتيح الأصوات الغائبة من اجل ايقاظها ومحاولة ترتيب تناغمها مع الأصوات الأخرى التي تشكل في النهاية الموسيقى بمحملها. نعم ان الكائنات الحية حين تصدر اصواتها بكل تنويعاتها الجميلة، فهي تظل بانتظار الفنان الشفاف القادر على جعلها تتحد في مساقات فنية متوازية يحدث اتحادها في نغمات تجتمع بحنو قوة التأليف لتصبح مقطوعة تثير الشجن في اعماق الإنسان، وتعيد تخصيب روحه. وربما يكون هذا هو الاختزال الحقيقي لفكرة الموسيقى والإبداع فيها. وفي العودة الى المنابع الأساسية للموسيقى العربية نجد أنها استفادت كثيراً من الموسيقى التركية والفارسية، وهي استفادة اقتربت من نهب وجدان بعض هذه الشعوب في بعض الأحيان، الى الدرجة التي كان يذهب فيها الملحن العربي الى مثل هذا الكنز كي يستل منه المقطوعة التي يريد ويقمشها بالكلمات العربية حتى تصبح اغنية عربية قابلة للرواج. وقد قيل عن موسيقيين عرب «عتاولة» استطاعوا ان يمتلكوا فنية عالية المستوى في السرقة والتزوير. والغريب أن الرموز الفنية العربية لم يسبق لها ان تداعت لعقد المؤتمرات الفكرية حول الموسيقى العربية والكشف عن تفاصيل قرصنتها، مع ان أبسط عازف هاوٍ يستطيع في جلسة واحدة ان يدلك على معظم هذه السرقات. إن مثل هذا الفقر الاستماعي عند مؤلف الموسيقى العربي جعل الموسيقى العربية برمتها تعتمد على الوقوف الابدي التي خلصت اليه، وهو موقف «الطرب» و«السلطنة» و«الآهات». ولعل من اكبر مآسينا في تأليف الموسيقى العربية هو وقوفها عند مصطلح الطرب كخط احمر يصعب تجاوزه. والحال فقد بدا لنا ان تثقيف الأذن بالموسيقى الحداثية القائمة على تجميع بعض الاصوات الكونية في انغام بحيث تشكل في النهاية بما يمكن تسميته بالسيمفوني العربي حالة تكاد تكون مستحيلة، ومن يراجع تاريخنا الموسيقي العربي المعاصر سيكتشف مثل هذا الوجل والخوف من الاقتراب من الإبداع السيمفوني. ومع أن هناك بعض المحاولات في هذا النهج الموسيقي السيمفوني عربياً، الا انها وللأسف ظلت محاولات عرجاء. والغريب أن ما يقابل كل هذا عربياً، وعلى كل هذا المستوى المنحط الذي نسمعه في الأسواق والحافلات يظل من المستويات الموسيقية الهابطة التي تخاطب الغرائز ولا شيء غير ذلك. والأغرب من هذا كله ان كل ما نستمع اليه من أغانٍ لا يعبر اطلاقاً عن مستوى العلاقة الإنسانية بين المرأة والرجل عموماً.
_____
*( الإمارات اليوم)