أحمد عثمان
بعد «عصري الجديد» المنشور قبل عدة أشهر، انتهى آلان ورينات لانس من ترجمة (كتابة، قراءة، حياة) لكريستا فولف عن الألمانية، الصادر مؤخرا عن دار كريستيان بورجوا، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات، الخطابات والأعمال السردية، المكتوبة خلال الفترة الممتدة من 1966 إلى 2010، بالتوازي مع ما كتبته من روايات.
يمثل الكتاب الأسس النظرية التي ارتكنت إليها الكاتبة، ويسمح باكتشاف الأسباب التي جذبتها الى إعداد شعريتها عن «الأصالة الذاتية». هذا المفهوم الذي يعتبر الرد المعطى على انهيار الواقعية، مثلما كان ينظر اليها في ألمانيا الديمقراطية. هذا المفهوم مفارق في ذاته لدى الذهنية الواقعية، فالذاتية لم تكن مشهورة كمولدة للحقيقة. إحدى فوائد قراءة (كتابة، قراءة، حياة) تتبدى بالضبط في تبيّن وفهم لماذا اتجهت فولف تدريجيا إلى هذا المفهوم، وكيف تبدى خصباً إلى حد إزاحته لقصور الموضوعية المزعومة.
يتم تثمين أعمال كريستا فولف بصورة فضلى إذا عرفنا سيرتها الحياتية. يمكننا الكلام عن معاركها العنيفة، في ألمانيا الديمقراطية كما في ألمانيا الموحدة. ما جرى في ألمانيا الديمقراطية معروف. كمعارضة، ركزت جل عملها في البداية على الأدب، أصبحت شخصية معارضة لا تكف عن التأكيد على ضرورة الحفاظ على الاختيار «الاشتراكي» لهذه الدولة الصغيرة التي نذرت لها منذ طفولتها. لم يضع هذا الاختيار فقط بسبب الوحدة، ولكنها أيضا انجرحت بالوشايات القذرة. هذه المرحلة تعتبر في الأصل بداية إقامتها في لوس انغلوس. أصدرت «مدينة الملائكة»، نصف – سرد عن المجتمع الأميركي (المجتمع الثري، أساسا)، نصف- سرد عن الصراع ضد الوشايات التي هدفت الى تلطيخ سمعتها.
في «مدينة الملائكة» تكشف عن القوى التي تجعل الأدب لا غنى عنه. إنها عيش الحقيقة. تلك التي تتأتى من حياة الناس، كما يعيشونها، وكما يعملون فيها، وهي لا ترتبط بأي علاقة مع ما هو وهمي وما هو مزيف يموضعها قبالة المشهد الإعلامي.. أي السلوك الحقيقي للناس. ولذلك كان تألقها في ألمانيا الديمقراطية أكبر من مثيله في ألمانيا الفيدرالية.
هذه العلاقة مع الحقيقة تتبدى جليا في «يوم في العام» و«عصري الجديد» اللذين يرويان الأحداث الشخصية والعامة التي تجرى لها في 27 سبتمبر من كل عام. تكشف فولف فيهما صور ضعفها، تمنياتها للمقربين منها وكل من يرافقونها في معاركها وصراعاتها المختلفة. لا تترك المجال مفتوحا للاعتقاد بأن كل شيء تلاشى مع انهيار السور، وبالتالي ألمانيا الديمقراطية. إذ إن سيطرة الأقنعة والأسلحة لم تختف بعد. الحياة تدور الآن على خشبة أخرى، بقواعد أخرى. إذا كانت بعض الصعوبات انتهت لحسن الحظ، فإن هناك صعوبات أخرى جديدة. في آخر الأمر، رجح حكمها النقدي على فرص انتصار مجتمع الثقافة الذي تمنته طوال حياتها.
دراسات كتاب (قراءة، كتابة، حياة) معالم في مسيرتها الثقافية والسياسية، كتأملات للنقطة العمياء. تستعير في كتابها من فرويد (بما أن ظلاله تمضي في «مدينة الملائكة») هذه الفكرة عن «النقطة العمياء» التي تتوافق مع النظرة التي تحملها عن ألمانيا. لم يرد الألمان رؤية ما جرى خلال حكم هتلر. في ألمانيا الديمقراطية، على الأقل على مستوى القادة، لم يريدوا رؤية الى أين تتجه البلاد. النقطة العمياء ترتبط أيضا برفض الذاكرة الذي سوف يعرقل الوعي وينتج الضعف. هذه الخاصية حاضرة في كل المجتمعات، كل الأنظمة السياسية. ولهذا يتمثل دور الكاتب في منع الأحداث الطارئة أو المتوقعة لهذه الكارثة،- أليست كريستا فولف مؤلفة «كاسندر»ـ في نفس الوقت، من الضروري اجتياز «النقطة العمياء» للاتجاه إلى الأمام.
آراؤها حاسمة، وقد رفضت طنانيّة (من طنطنة) الأسلوب أو الأثر البلاغي اللذين لا ينتميان إلى طبيعتها. كرست فصلين عن شخصية أصيلة، غرهارد فولف، زوجها. في أربعين صفحة مشحونة بالفكاهة– ولم يكن أحد يعرف من قبل ميلها للفكاهة بالأخص فيما يتعلق بحياتها الخاصة– ترسم بورتريهاً عميقا له، تسعى من خلاله إلى الاقتراب منه: «الكلمات الكبيرة لا تمتلك أي حصة البتة بيننا. فقط: كنت محظوظة».
نقرأ أيضا دفاعها عن جونتر غراس بعد ما اعترف بانضمامه إلى «الفافن اس اس» (الوحدة الوقائية) ولقاؤها بأوفه جونسون الذي لم يدعها تهجر ألمانيا الديمقراطية.
الحياة والكتابة، لدى كريستا فولف، ممتزجان. لأن الأدب يتطلب أن يكون إلى جانب الإنسان. إنه درس الروائية التي تقلَّدت تدريجيا مكانة أكبر روائية في عصرنا.
الاتحاد